والجواب : أنه تعالى أراد منهم الاقدام على الإيمان حال كون الداعي إلى الإيمان وإلى الكفر على السوية أو حال حصول هذا الرجحان. والأول : تكليف ما لا يطاق، لأن الأمر بتحصيل الرجحان حال حصول الاستواء، تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال، وإن كان الثاني : فالطرف الراجح يكون واجب الوقوع، والطرف المرجوح يكون ممتنع الوقوع، وكل هذه الأقسام تنافي ما ذكروه من المكنة والاختيار، فسقط قولهم بالكلية. والله أعلم.
المسألة الثالثة : قوله تعالى في آخر الآية ﴿فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَـاهِلِينَ﴾ نهي له عن هذه الحالة، وهذا النهي لا يقتضي إقدامه على مثل هذه الحالة كما أن قوله ﴿وَلا تُطِعِ الْكَـافِرِينَ وَالْمُنَـافِقِينَ ﴾ (الأحزاب : ٤٨) لا يدل على أنه صلى الله عليه وسلّم أطاعهم وقبل دينهم، والمقصود أنه لا ينبغي أن يشتد تحسرك على تكذيبهم، ولا يجوز أن تجزع من إعراضهم عنك فإنك لو فعلت ذلك قرب حالك من حال الجاهل، والمقصود من تغليظ الخطاب التبعيد والزجر له عن مثل هذه الحالة. والله أعلم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٢١
٥٢٢
اعلم أنه تعالى بيّن السبب في كونهم بحيث لا يقبلون الإيمان ولا يتركون الكفر فقال :﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَا ﴾ يعني أن الذين تحرص على أن يصدقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون، وإنما يستجيب من يسمع، كقوله ﴿إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ﴾ (النمل : ٨٠) قال علي بن عيسى : الفرق بين يستجيب ويجيب، أن يستجيب في قبوله لما دعي إليه، وليس كذلك يجيب لأنه قد يجيب بالمخالفة كقول القائل : أتوافق في هذا المذهب أم تخالف ؟
فيقول المجيب : أخالف.
وأما قوله ﴿وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾ ففيه قولان : الأول : أنه مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة والمراد : أنه تعالى هو القادر على أن يبعث الموتى من القبور يوم القيامة ثم إليه يرجعون للجزاء، فكذلك ههنا أنه تعالى هو القادر على إحياء قلوب هؤلاء الكفار بحياة الإيمان وأنت لا تقدر عليه.
والقول الثاني : أن المعنى : وهؤلاء الموتى يعني الكفرة يبعثهم الله ثم إليه يرجعون، فحينئذ يسمعون وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى استمعاهم، وقريء ﴿يَرْجِعُونَ﴾ بفتح الياء. وأقول : لا شك أن الجسد الخالي عن الروح يظهر منه النتن والصديد والقيح وأنواع العفونات، وأصلح أحواله أن يدفن تحت التراب، وأيضاً الروح الخالية عن العقل يكون صاحبها مجنوناً يستوجب القيد والحبس والعقل بالنسبة إلى الروح كالروح بالنسبة إلى الجسد، وأيضاً العقل بدون معرفة الله تعالى وصفاته وطاعته كالضائع الباطل، فنسبة التوحيد والمعرفة إلى العقل كنسبة العقل إلى الروح، ونسبة الروح إلى الجسد فمعرفة الله ومحبته روح روح الروح فالنفس الخالية عن هذه المعرفة تكون بصفة الأموات، فلهذا السبب وصف الله أولئك الكفار المصرين بأنهم الموتى. والله أعلم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٢٢
٥٢٣
اعلم أن هذا النوع الرابع من شبهات منكري نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم، وذلك لأنهم قالوال : لو كان رسولاً من عند الله فهلا أنزل عليه آية قاهرة ومعجزة باهرة
ويروى أن بعض الملحدة طعن فقال : لو كان محمد صلى الله عليه وسلّم قد أتى بآية معجزة لما صح أن يقول أولئك الكفار ﴿لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ﴾ ولما قال :﴿وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّه ﴾.
والجواب عنه : أن القرآن معجزة قاهرة وبينة باهرة، بدليل أنه صلى الله عليه وسلّم تحداهم به فعجزا عن معارضته، وذلك يدل على كونه معجزاً.
بقي أن يقال : فإذا كان الأمر كذلك فكيف قالوا ﴿لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّه ﴾.
فنقول : الجواب عنه من وجوه :
الوجه الأول : لعلّ القوم طعنوا في كون القرآن معجزاً على سبيل اللجاج والعناد، وقالوا : إنه من جنس الكتب، والكتاب لا يكون من جنس المعجزات، كما في التوراة والزبور والإنجيل، ولأجل هذه الشبهة طلبوا المعجزة.
والوجه الثاني : أنهم طلبوا معجزات قاهرة من جنس معجزات سائر الأنبياء مثل فلق البحر واظلال الجبل وإحياء الموتى.
والوجه الثالث : أنهم طلبوا مزيد الآيات والمعجزات على سبيل التعنت واللجاج مثل إنزال الملائكة وإسقاط السماء كسفاً وسائر ما حكاه عن الكافرين.
والوجه الرابع : أن يكون المراد ما حكاه الله تعالى عن بعضهم في قوله ﴿اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (الأنفال : ٣٢) فكل هذه الوجوه مما يحتملها لفظ الآية.
ثم إنه تعالى أجاب عن سؤالهم ﴿قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى ا أَن يُنَزِّلَ ءَايَةً﴾ يعني أنه تعالى قادر على إيجاد ما طلبتموه وتحصيل ما اقترحتموه ﴿وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ واختلفوا في تفسير هذه الكلمة على وجوه :


الصفحة التالية
Icon