المسألة الثانية : للناس في قوله تعالى :﴿ الر ﴾ وما يجري مجراه من الفواتح قولان : أحدهما : أن هذا علم مستور وسر محجوب استأثر الله تبارك وتعالى به. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : لله في كل كتاب سر وسره في القرآن أوائل السور، وقال علي رضي الله عنه : إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي. وقال بعض العارفين : العلم بمنزلة البحر فأجرى منه وادٍ ثم أجرى من الوادي نهر. ثم أجرى من النهر جدول، ثم أجرى من الجدول ساقية، فلو أجرى إلى الجدول ذلك الوادي لغرقه وأفسده، ولو سال البحر إلى الوادي لأفسده، وهو المراد من قوله تعالى :﴿أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَة بِقَدَرِهَا﴾ (الرعد : ١٧) فبحور العلم عند الله تعالى، فأعطي الرسل منها أودية، ثم أعطت الرسل من أوديتهم أنهاراً إلى العلماء، ثم أعطت العلماء إلى العامة جداول صغاراً على قدر طاقتهم، ثم أجرت العامة سواقي إلى أهاليهم بقدر طاقتهم. وعلى هذا ما روي في الخبر "للعلماء سر، وللخلفاء سر. وللأنبياء سر، وللملائكة سر، ولله من بعد ذلك كله سر، فلو اطلع الجهال على سر العلماء لأبادوهم، ولو اطلع العلماء على سر الخلفاء لنابذوهم، ولو اطلع الخلفاء على سر الأنبياء لخالفوهم، ولو اطلع الأنبياء على سرالملائكة لاتهموهم، ولو اطلع الملائكة على سر الله تعالى لطاحوا حائرين، وبادوا بائرين. والسبب في ذلك أن العقول الضعيفة لا تحتمل الأسرار القوية/ كما لا يحتمل نور الشمس أبصار الخفافيش، فلما زيدت الأنبياء في عقولهم قدروا على احتمال أسرار النبوة، ولما زيدت العلماء في عقولهم قدروا على احتمال أسرار ما عجزت العامة عنه، وكذلك علماء الباطن، وهم الحكماء زيد في عقولهم فقدروا على احتمال ما عجزت عنه علماء الظاهر. وسئل الشعبي عن هذه الحروف فقال : سر الله فلا تطلبوه، وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال : عجزت العلماء عن إدراكها، وقال الحسين بن الفضل : هو من المتشابه.
واعلم أن المتكلمين أنكروا هذا القول هذا القول، وقالوا لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوماً للخلق، واحتجوا عليه بالآيات والأخبار والمعقول.
حجج المتكلمين بالآيات :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٤٩
أما الآيات فأربعة عشر. أحدها : قوله تعالى :﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ﴾ (محمد : ٢٤) أمرهم بالتدبر في القرآن، ولو كان غير مفهوم فكيف يأمرهم بالتدبر فيه وثانيها : قوله :﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَا وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَـافًا كَثِيرًا﴾ (النساء : ٨٢) فكيف يأمرهم بالتدبر فيه لمعرفة نفي الناقص والاختلاف مع أنه غير مفهوم للخلق ؟
وثالثها : قوله :﴿وَإِنَّه لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ﴾ (الشعراء : ١٩٢ ـ ١٩٥) فلو لم يكن مفهوماً بطل كون الرسول صلى الله عليه وسلّم منذراً به، وأيضاً قوله :﴿بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ﴾ يدل على أنه نازل بلغة العرب، وإذا / كان الأمر كذلك وجب أن يكون مفهوماً. ورابعها : قوله :﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنابِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ والاستنباط منه لا يمكن إلا مع الإحاطة بمعناه وخامسها : قوله :﴿تِبْيَـانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ﴾ (النحل : ٨٩) وقوله :﴿مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَـابِ مِن شَىْءٍ ﴾ (الأنعام : ٨٣) وسادسها : قوله :﴿هُدًى لِّلنَّاسِ﴾ (البقرة : ١٨٥)، ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة : ٢) وغير المعلوم لا يكون هدى وسابعها : قوله :﴿حِكْمَة بَـالِغَةٌ ﴾ (القمر : ٥) وقوله :﴿وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ (يونس : ٥٧) وكل هذه الصفات لا تحصل في غير المعلوم وثامنها : قوله :﴿قَدْ جَآءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَـابٌ مُّبِينٌ﴾ (المائدة : ١٥) وتاسعها : قوله :﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ يُتْلَى عَلَيْهِم إِنَّ فِى ذَالِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (العنكبوت : ٥١) وكيف يكون الكتاب كافياً وكيف يكون ذكرى مع أنه غير مفهوم ؟
وعاشرها : قوله تعالى :﴿هَـاذَا بَلَـاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِه ﴾
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٤٩


الصفحة التالية
Icon