وأعلم أن هذه الوجوه التي تكلفها هؤلاء الأقوام إنما يحسن المصير إليها لو ثبت في العقل أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره. وأما لما ثبت بالدليل العقلي القاطع أنه لا يمكن حمل هذا الكلام إلا على ظاهره كان العدول إلى هذه الوجوه المتكلفة بعيداً جداً، وقد دللنا على أن الفعل لا يحصل إلا عند حصول الداعي، وبينا أن خالق ذلك الداعي هو الله، وبينا أن عند حصوله يجب الفعل، فهذه المقدمات الثلاثة توجب القطع بأن الكفر والإيمان من الله، وبتخليقه وتقديره وتكوينه، ومتى ثبت بهذا البرهان القاطع صحة هذا الظاهر، كان الذهاب إلى هذه التكلفات فاسداً قطعاً، وأيضاً فقد تتبعنا هذه الوجوه بالابطال والنقض في تفسير قوله ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ (البقرة : ٧) وفي سائر الآيات، فلا حاجة إلى الإعادة، وأقربها أن هذا الاضلال والهداية معلقان بالمشيئة، وعلى ما قالوه : فهو أمر واجب على الله تعالى يجب عليه أن يفعله شاء أم أبى والله أعلم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٣١
المسألة الثالثة : قوله :﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِـاَايَـاتِنَا﴾ اختلفوا في المراد بتلك الآيات، فمنهم من قال : القرآن ومحمد، ومنهم من قال : يتناول جميع الدلائل والحجج، وهذا هو الأصح. والله أعلم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٣١
٥٣٣
أعلم أنه تعالى لما بين غاية جهل أولئك الكفار بين من حالهم أيضاً أنهم إذا نزلت بهم بلية أو محنة يفرزعون إلى الله تعالى ويلجأون إليه ولا يتمردون عن طاعته، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال الفراء للعرب في (أرأيت) لغتان : إحداهما : رؤية العين، فإذا قلت للرجل رأيتك كان المراد : أهل رأيت نفسك ؟
ثم يثنى ويجمع. فنقول : أرأيتكما أرأيتكم، والمعنى الثاني : أن تقول أرأيتك، وتريد : أخبرني، وإذا أردت هذا المعنى تركت التاء مفتوحة على كل حال تقول : أرأيتك أرأيتكما أرأيتكم أرأيتكن.
إذا عرفت هذا فنقول : مذهب البصريين : أن الضمير الثاني وهو الكاف في قولك : أرأيتك لا محل له من الاعراب، والدليل قوله تعالى :﴿قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَـاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ﴾ (الإسرار : ٦٢) ويقال أيضا : أرأيتك زيداً ما شأنه، ولو جعلت الكاف محلاً لكنت كأنك تقول : أرأيت نفسك زيداً ما شأنه، وذلك كلام فاسد، فثبت أن الكاف لا محل له من الاعراب، بل هو حرف لأجل الخطاب، وقال الفراء : لو كانت الكاف توكيداً لوقعت التثنية والجمع على التاء، كما يقعان عليها عند عدم الكاف، فلما فتحت التاء في خطاب الجمع، ووقعت علامة الجمع على الكاف، دل ذلك على أن الكاف غير مذكور للتوكيد. ألا ترى أن الكاف لو سقطت لم يصلح أن يقال لجماعة : أرأيت، فثبت بهذا انصراف الفعل إلى الكاف، وأنها واجبة لازمة مفتقر إليها.
أجاب الواحد عنه : بأن هذه الحجة تبطل بكاف ذلك وأولئك، فإن علامة الجمع تقع عليها مع أنها حرف للخطاب، مجرد عن الاسمية، والله أعلم.
المسألة الثانية : قرأ نافع ﴿أَرَءَيْتَكُمْ﴾ وأشباه ذلك بتخفيف الهمزة في كل القرآن، والكسائي ترك الهمزة في كل القرآن، والباقون بالهمزة. أما تخفيف الهمزة، فالمراد جعلها بين الهمزة والألف على التخفيف القياسي. وأما مذهب الكسائي فحسن، وبه قرأ عيسى بن عمر وهو كثير في الشعر، وقد تكلمت العرب في مثله بحذف الهمزة للتخفيف كما قالوا : وسله، وكما أنشد أحمد بن يحيى :
وإن لم أقاتل فالبسوني برقعا
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٣٣
بحذف الهمزة. أراد فألبسوني بإثبات الهمزة. وأما الذين قرأوا بتخفيف الهمزة فالسبب أن الهمزة عين الفعل والله أعلم.
المسألة الثالثة : معنى الآية أن الله تعالى قال لمحمد عليه السلام : قل يا محمد لهؤلاء الكفار إن أتاكم عذاب الله في الدنيا وأتاكم العذاب عند قيام الساعة، أترجعون إلى غير الله في دفع ذلك البلاء والضر أو ترجعون فيه إلى الله تعالى ؟
ولما كان من المعلوم بالضرورة أنهم إنما يرجعون إلى الله تعالى في دفع البلاء والمحنة لا إلى الأصنام والأوثان، لا جرم قال ﴿تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ﴾ يعني أنكم لا ترجعون في طلب دفع البلية والمحنة إلا إلى الله تعالى.
ثم قال :﴿فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ﴾ أي فيكشف الضر الذي من أجله دعوتم وتنسون ما تشركون به، وفيه وجوه : الأول : قال ابن عباس : المراد تتركون الأصنام ولا تدعونهم لعلمكم أنها لا تضر ولا تنفع. الثاني : قال الزجاج : يجوز أن يكون المعنى أنكم في ترككم دعاءهم بمنزلة من قد نسيهم، وهذا قول الحسن لأنه قال : يعرضون إعراض الناسي، ونظيره قوله تعالى :﴿حَتَّى ا إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ﴾ (يونس : ٢٢) ولا يذكرون الأوثان.


الصفحة التالية
Icon