المسألة الثالثة : قوله ﴿مَّنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ﴾ ﴿مِنْ﴾ رفع بالابتداء وخبره ﴿إِلَـاهٍ ﴾ و﴿غَيْرِ﴾ صفة له وقوله ﴿يَأْتِيكُم بِهِ﴾ هذه الهاء تعود على معنى الفعل. والتقدير : من إله غير الله يأتيكم بما أخذ منكم.
المسألة الرابعة : روي عن نافع ﴿بِه انْظُرْ﴾ بضم الهاء وهو على لغة من يقرأ ﴿فَخَسَفْنَا بِه وَبِدَارِهِ الارْضَ﴾ (القصص : ٨١) فحذف الواو لالتقاء الساكنين فصار ﴿بِه انْظُرْ﴾ والباقون بكسر الهاء. وقرأ حمزة والكسائي ﴿يَصْدِفُونَ﴾ باشمام الزاي والباقون بالصاد أي يعرضون عنه. يقال : صدف عنه أي أعرض والمراد من تصريف الآيات إيرادها على الوجوه المختلفة المتكاثرة بحث يكون كل واحد منها يقوي ما قبل في الايصال إلى المطلوب فذكر تعالى أن مع هذه المبالغة في التفهيم والتقرير والإيضاح والكشف، انظر يا محمد أنهم كيف يصدفون ويعرضون.
المسألة الخامسة : قال الكعبي : دلت هذه الآية على أنه تعالى مكنهم من الفهم، ولم يخلق فيهم الاعراض والصد ولو كان تعالى هو الخالق لما فيهم من الكفر لم يكن لهذا الكلام معنى. واحتج أصحابنا بعين هذه الآية وقالوا : إنه تعالى بين أنه بالغ في إظهار هذه الدلالة وفي تقريرها وتنقيجها وإزالة جهات الشبهات عنها، ثم إنهم مع هذه المبالغة القاطعة للعذر ما زادوا إلا تمادياً في الكفر والغي والعناد، وذلك يدل على أن الهدى والضلال لا يحصلان إلا بهداية الله وإلا بإضلاله فثبت أن هذه الآية دلالتها على قولنا أقوى من دلالتها على قولهم والله أعلم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٣٦
٥٣٧
اعلم أن الدليل المتقدم كان مختصاً بأخذ السمع والبصر والقلب وهذا عام في جميع أنواع العذاب، والمعنى : أنه لا دافع لنوع من أنواع العذاب إلا الله سبحانه، ولا محصل لخير من الخيرات إلا الله سبحانه، فوجب أن يكون هو المعبود بجميع أنواع العبادات لا غيره.
فإن قيل : ما المراد بقوله ﴿بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً﴾ قلنا العذاب الذي يجيئهم إما أن يجيئهم من غير سبق علامة تدلهم على مجيء ذلك العذاب أو مع سبق هذه العلامة. فالأول : هو البغتة. والثاني : هو الجهرة. والأول سماه الله تعالى بالبغتة، لأنه فاجأهم بها وسمى الثاني جهرة، لأن نفس العذاب وقع بهم وقد عرفوه حتى لو أمكنهم الاحتراز عنه لتحرزوا منه.
وعن الحسن أنه قال :﴿بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً﴾ معناه ليلاً أو نهاراً. وقال القاضي : يجب حمل هذا الكلام على ما تقدم ذكره لأنه لو جاءهم ذلك العذاب ليلاً وقد عاينوا مقدمته، لم يكن بغتة ولو جاءهم نهاراً وهم لا يشعرون بمقدمته لم يكن جهرة. فأما إذا حملناه على الوجه الذي تقدم ذكره، استقام الكلام.
فإن قيل : فما المراد بقوله ﴿هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّـالِمُونَ﴾ مع علمكم بأن العذاب إذا نزل لم يحصل فيه التمييز.
قلنا : إن الهلاك وإن عم الأبرار والأشرار في الظاهر، إلا أن الهلاك في الحقيقة مختص بالظالمين الشريرين، لأن الأخيار يستوجبون بسبب نزول تلك المضار بهم أنواعاً عظيمة من الثواب والدرجات الرفيعة عند الله تعالى، فذاك وإن كان بلاء في الظاهر، إلا أنه يوجب سعادات عظيمة ؟
أما الظالمون فإذا نزل البلاء بهم فقد خسروا الدنيا والآخرة معاً، فلذلك وصفهم الله تعالى بكونهم هالكين وذلك تنبيه على أن المؤمن التقي النقي هو السعيد، سواء كان في البلاء أو في الآلاء والنعماء وأن الفاسق الكافر هو الشقي، كيف دارت قضيته واختلفت أحواله، والله أعلم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٣٧
٥٣٧
اعلم أنه تعالى حكى عن الكفار فيما تقدم أنهم قالوا ﴿لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّه ﴾ (الأنعام : ٣٧) وذكر الله تعلى في جوابهم ما تقدم من الوجوه الكثيرة ثم ذكر هذه الآية والمقصود منها أن الأنبياء والرسل بعثوا مبشرين ومنذرين ولا قدرة لهم على إظهار الآيات وإنزال المعجزات، بل ذاك مفوض إلى مشيئة الله تعالى وكلمته وحكمته فقال :﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ﴾ مبشرين بالثواب على الطاعات، ومنذرين بالعقاب على المعاصي، فمن قبل قولهم وأتى بالإيمان الذي هو عمل القلب والاصلاح الذي هو عمل الجسد ﴿فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ ومعنى المس في اللغة التقاء الشيئين من غير فصل. قال القاضي : إنه تعالى علل عذاب الكفار بكونهم فاسقين، وهذا يقتضي أن يكون كل فاسق كذلك، فيقال له هذا معارض بما أنه خص الذين كذبوا بآيات الله بهذا الوعيد وهذا يدل على أن من لم يكن مكذباً بآيات الله أن يلحقه الوعيد أصلاً. وأيضاً فهذا يقتضي كون هذا الوعيد معللاً بفسقهم فلم قلتم أن فسق من عرف الله وأقر بالتوحيد والنبوّة والمعاد، مساو لفسق من أنكر هذه الأشياء ؟
والله أعلم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٣٧
٥٣٩


الصفحة التالية
Icon