المسألة الرابعة : في قوله ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَواةِ وَالْعَشِىِّ﴾ قولان : الأول : أن المراد من الدعاء الصلاة، يعني يعبدون ربهم بالصلاة المكتوبة، وهي صلاة الصبح وصلاة العصر وهذا قول ابن عباس والحسن ومجاهد.
وقيل : المراد من الغداة والعشى طرفا النهار، وذكر هذين القسمين تنبيهاً على كونهم مواظبين على الصلوات الخمس.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٤٣
والقول الثاني : المراد من الدعاء الذكر قال إبراهيم : الدعاء ههنا هو الذكر والمعنى يذكرون ربهم طرفي النهار.
المسألة الخامسة : المجسمة تمسكوا في إثبات الأعضاء لله تعالى بقوله ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَه ﴾ وسائر الآيات المناسبة له مثل قوله ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ (الرحمن : ٢٧).
وجوابه أن قوله ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ (الإخلاص : ١) يقتضي الوجدانية التامة، وذلك ينافي التركيب من الأعضاء والأجزاء، فثبت أنه لا بدّ من التأويل، وهو من وجهين : الأول : قوله ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَه ﴾ المعنى يريدونه إلا أنهم يذكرون لفظ الوجه للتعظيم، كما يقال هذا وجه الرأي وهذا وجه الدليل، والثاني : أن من أحب ذاتاً أحب أن يرى وجهه، فرؤية الوجه من لوازم المحبة، فلهذا السبب جعل الوجه كناية عن المحبة وطلب الرضا وتمام هذا الكلام تقدم في قوله ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُا فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه ﴾ (البقرة : ١١٥).
ثم قال تعالى :﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَىْءٍ﴾ اختلفوا في أن الضمير في قوله ﴿حِسَابَهُم﴾ وفي قوله ﴿عَلَيْهِمْ﴾ إلى ماذا يعود ؟
والقول الأول : أنه عائد إلى المشركين، والمعنى ما عليك من حساب المشركين من شيء ولا حسابك على المشركين وإنما الله هو الذي يدبر عبيده كما يشاء وأراد. والغرض من هذا الكلام أن النبي صلى الله عليه وسلّم يتحمل هذا الاقتراح من هؤلاء الكفار، فلعلّهم يدخلون في الإسلام ويتخلصون من عقاب الكفر، فقال تعالى : لا تكن في قيد أنهم يتقون الكفر أم لا فإن الله تعالى هو الهادي والمدبر.
القول الثاني : أن الضمير عائد إلى الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، وهم الفقراء، وذلك أشبه بالظاهر. والدليل عليه أن الكناية في قوله ﴿فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّـالِمِينَ﴾ عائدة لا محالة إلى هؤلاء الفقراء/ فوجب أن يكون سائر الكنايات عائدة إليهم، وعلى هذا التقدير فذكروا في قوله ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ﴾ قولين : أحدهما : أن الكفار طعنوا في إيمان أولئك الفقراء وقالوا يا محمد إنهم إنما اجتمعوا عندك وقبلوا دينك لأنهم يجدون بهذا السبب مأكولاً وملبوساً عندك، وإلا فهم فارغون عن دينك، فقال الله تعالى إن كان الأمر كما يقولون، فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر وإن كان لهم باطن غير مرضي عند الله، فحسابهم عليه لازم لهم، لا يتعدى إليك، كما أن حسابك عليك لا يتعدى إليهم، كقوله ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ (الأنعام : ١٦٤).
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٤٣
فإن قيل : أما كفى قوله ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ﴾ حتى ضم إليه قوله ﴿وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَىْءٍ﴾ قلنا : جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة قصد بهما معنى واحد وهو المعنى في قوله ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً، كأنه قيل لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه.
القول الثاني : ما عليك من حساب رزقهم من شيء فتملهم وتطردهم، ولا حساب رزقك عليهم، وإنما الرازق لهم ولك هو الله تعالى، فدعهم يكونوا عندك ولا تطردهم.
وأعلم أن هذه القصة شبيهة بقصة نوح عليه السلام إذ قال له قومه ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الارْذَلُونَ﴾ (الشعراء : ١١١) فأجابهم نوح عليه السلام و﴿قَالَ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّى لَوْ تَشْعُرُونَ﴾ (الشعراء : ١١٢، ١١٣) وعنوا بقولهم ﴿الارْذَلُونَ﴾ الحاكة والمحترفين بالحرف الخسيسة، فكذلك ههنا. وقوله ﴿فَتَطْرُدَهُمْ﴾ جواب النفي ومعناه، ما عليك من حسابهم من شيء فتطردهم، بمعنى أنه لم يكن عليك حسابهم حتى أنك لأجل ذلك الحساب تطردهم، وقوله ﴿فَتَكُونَ مِنَ الظَّـالِمِينَ﴾ يجوز أن يكون عطفاً على قوله ﴿فَتَطْرُدَهُمْ﴾ على وجه التسبب لأن كونه ظالماً معلوم طردهم ومسبب له. وأما قوله ﴿فَتَكُونَ مِنَ الظَّـالِمِينَ﴾ ففيه قولان : الأول :﴿فَتَكُونَ مِنَ الظَّـالِمِينَ﴾ لنفسك بهذا الطرد، الثاني : أن تكون من الظالمين لهم لأنهم لما استوجبوا مزيد التقريب والترحيب كان طردهم ظلماً لهم، والله أعلم.
جزء : ١٢ رقم الصفحة : ٥٤٣
فيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon