وفيه دقيقة أخرى وهي : إنه تعالى قدم ذكر البر، لأن الإنسان قد شاهد أحوال البر، وكثرة ما فيه من المدن والقرى والمفاوز والجبال والتلال، وكثرة ما فيها من الحيوان والنبات والمعادن. وأما البحر فإحاطة العقل بأحواله أقل إلا أن الحس يدل على أن عجائب البحار في الجملة أكثر وطولها وعرضها أعظم وما فيها من الحيوانات وأجناس المخلوقات أعجب. فإذا استحضر الخيال صورة البحر والبر على هذه الوجوه. ثم عرف أن مجموعها قسم حقير من الأقسام الداخلة تحت قوله :﴿وَعِندَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَآ إِلا هُوَ ﴾ فيصير هذا المثال المحسوس مقوياً ومكملاً للعظمة الحاصلة تحت قوله :﴿وَعِندَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَآ إِلا هُوَ ﴾ ثم إنه تعالى كما كشف عن عظمة قوله ﴿وَعِندَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾ بذكر البر والبحر كشف عن عظمة البر والبحر بقوله :﴿وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا﴾ وذلك لأن العقل يستحضر جميع ما في وجه الأرض من المدن والقرى والمفاوز والجبال والتلال، ثم يستحضركم فيها من النجم والشجر ثم يستحضر أنه لا يتغير حال ورقة إلا والحق سبحانه يعلمها ثم يتجاوز من هذا المثال إلى مثال آخر أشد هيئة منه وهو قوله :﴿وَلا حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـاتِ الارْضِ﴾ وذلك لأن الحبة في غاية الغصر وظلمات الأرض موضع يبقى أكبر الأجسام وأعظمها مخفياً فيها فإذا سمع أن تلك الحبة الصغيرة الملقاة في ظمات الأرض على اتساعها وعظمتها لا تخرج عن علم الله تعالى البتة، صارت هذه الأمثلة منبهة على عظمة عظيمة وجلالة عالية من المعنى المشار إليه بقوله :﴿وَعِندَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَآ إِلا هُوَ ﴾ بحيث تتحير العقول فيها وتتقاصر الأفكار والألباب عن الوصول إلى مباديها، ثم إنه تعالى لما قوى أمر ذلك المعقول المحض المجرد بذكر هذه الجزئيات المحسوسة فبعد ذكرها عاد إلى ذكر تلك القضية العقلية المحضة المجردة بعبارة أخرى فقال :﴿وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ﴾ وهو عين المذكور في قوله :﴿وَعِندَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَآ إِلا هُوَ ﴾ فهذا ما عقلناه في تفسير هذه الآية الشريفة العالية. ومن الله التوفيق.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٢
المسألة الثانية : المتكلمون قالوا إنه تعالى فاعل العالم بجواهره وأعراضه على سبيل الإحكام والإتقان، ومن كان كذلك كان عالماً بها فوجب كونه تعالى عالماً بها والحكماء قالوا : إنه تعالى مبدأ لجميع الممكنات، والعلم بالمبدأ يوجب العلم بالأثر فوجب كونه تعالى عالماً بكلها :
واعلم أن هذا الكلام من أدل الدلائل على كونه تعالى عالماً بجميع الجزئيات الزمانية وذلك / لأنه لما ثبت أنه تعالى مبدأ لكل ما سواه وجب كونه مبدأ لهذه الجزئيات بالأثر. فوجب كونه تعالى عالماً بهذه التغيرات والزمانيات من حيث إنها متغيرة وزمانية وذلك هو المطلوب.
المسألة الثالثة : قوله تعالى :﴿وَعِندَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَآ إِلا هُوَ ﴾ يدل على كونه تعالى منزهاً عن الضد والند وتقريره : أن قوله :﴿وَعِندَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾ يفيد الحصر، أي عنده لا عند غيره. ولو حصل وجود آخر واجب الوجود لكان مفاتح الغيب حاصلة أيضاً عند ذلك الآخر، وحينئذ يبطل الحصر. وأيضاً فكما أن لفظ الآية يدل على هذا التوحيد، فكذلك البرهان العقلي يساعد عليه. وتقريره : أن المبدأ لحصول العلم بالآثار والنتائج والصنائع هو العلم بالمؤثر والمؤثر الأول في كل الممكنات هو الحق سبحانه. فالمفتح الأول للعلم بجميع المعلومات هو العلم به سبحانه لكن العلم به ليس إلا له لأن ما سواه أثر والعلم بالأثر لا يفيد العلم بالمؤثر. فظهر بهذا البرهان أن مفاتح الغيب ليست إلا عند الحق سبحانه. والله أعلم.
المسألة الرابعة : قرىء ﴿الارْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ﴾ بالرفع وفيه وجهان : الأول : أن يكون عطفاً على محل من ورقة وأن يكون رفعاً على الابتداء وخبره ﴿إِلا فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ﴾ كقولك : لا رجل منهم ولا امرأة إلا في الدار.


الصفحة التالية
Icon