المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة والكسائي ﴿قُلْ مَن يُنَجِّيكُم﴾ بالتشديد في الكلمتين، والباقون بالتخفيف. قال الواحدي : والتشديد والتخفيف لغتان منقولتان من نجا، فن شئت نقلت بالهمزة، وإن شئت نقلت بتضعيف العين : مثل : أفرحته وفرحته، وأغرمته وغرمته، وفي القرآن ﴿فَأَنجَيْنَـاهُ وَالَّذِينَ مَعَه ﴾ (الأعراف : ٧٢) وفي آية أخرى ﴿وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ (فصلت : ١٨) ولما جاء التنزيل باللغتين معاً ظهر استواء القراءتين في الحسن، غير أن الاختيار التشديد، لأن ذلك من الله كان غير مرة، وأيضاً قرأ عاصم في رواية أبي بكر خفية بكسر الخاء والباقون بالضم، وهما لغتان، وعلى هذا الاختلاف في سورة الأعراف، وعن الأخفش في خفية وخفية أنهما لغتان، وأيضاً الخفية من الإخفاء، / والخيفة من الرهب، وأيضاً (﴿ لئن أَنجَيْتَنَا﴾ من هذه. قرأ عاصم وحمزة والكسائي ﴿لَّـاـاِنْ أَنجَا ـنَا﴾ على المغايبة، والباقون ﴿ لئن أَنجَيْتَنَا﴾ على الخطاب، فأما الأولون : وهم الذين قرؤا على المغايبة، فقد اختلفوا. قرأ عاصم بالتفخيم، والباقون بالأمالة، وحجة من قرأ على المغايبة أن ما قبل هذا اللفظ، وما بعده مذكور بلفظ المغايبة، فأما ما قبله فقوله :﴿تَدْعُونَه ﴾ وأما ما بعده فقوله :﴿قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا﴾ وأيضاً فالقراءة بلفظ الخطاب توجب الإضمار، والتقدير : يقولون لئن أنجيتنا، والإضمار خلاف الأصل. وحجة من قرأ على المخاطبة قوله تعالى في آية أخرى :﴿ لئن أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـاذِه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّـاكِرِينَ﴾.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٢٠
المسألة الثانية :﴿ظُلُمَـاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما. يقال : لليوم الشديد يوم مظلم. ويوم ذو كواكب أي اشتدت ظلمته حتى عادت كالليل، وحقيقة الكلام فيه أنه يشتد الأمر عليه، ويشتبه عليه كيفية الخروج، ويظلم عليه طريق الخلاص، ومنهم من حمله على حقيقته فقال : أما ظلمات البحر فهي أن تجتمع ظلمة الليل، وظلمة البحر وظلمة السحاب، ويضاف الرياح الصعبة والأمواج الهائلة إليها، فلم يعرفوا كيفية الخلاص وعظم الخوف، وأما ظلمات البر فهي ظلمة الليل وظلمة السحاب والخوف الشديد من هجوم الأعداء، والخوف الشديد من عدم الاهتداء إلى طريق الصواب، والمقصود أن عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع الإنسان إلا إلى الله تعالى، وهذا الرجوع يحصل ظاهراً وباطناً، لأن الإنسان في هذه الحالة يعظم إخلاصه في حضرة الله تعالى، وينقطع رجاؤه عن كل ما سوى الله تعالى، وهو المراد من قوله :﴿تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾ فبين تعالى أنه إذا شهدت الفطرة السليمة والخلقة الأصلية في هذه الحالة بأنه لا ملجأ إلا إلى الله، ولا تعويل إلا على فضل الله، وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات، لكنه ليس كذلك، فإن الإنسان بعد الفوز بالسلامة والنجاة. يحيل تلك السلامة إلى الأسباب الجسمانية، ويقدم على الشرك، ومن المفسرين من يقول : المقصود من هذه الآية الطعن في إلهية الأصنام والأوثان، وأنا أقول : التعلق بشيء مما سوى الله في طريق العبودية يقرب من أن يكون تعلقاً بالوثن/ فإن أهل التحقيق يسمونه بالشرك الخفي، ولفظ الآية يدل على أن عند حصول هذه الشدائد يأتي الإنسان بأمور : أحدها : الدعاء. وثانيها : التضرع. وثالثها : الإخلاص بالقلب، وهو المراد من قوله :﴿وَخُفْيَةً ﴾ ورابعها : التزام الاشتغال بالشكر، وهو المراد من قوله :﴿ لئن أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـاذِه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّـاكِرِينَ﴾ ثم بين تعالى أنه ينجيهم من تلك المخاوف، ومن سائر موجبات الخوف والكرب. ثم إن ذلك الإنسان يقدم على الشرك، ونظير هذه الآية قوله :/ ﴿ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاه ﴾ وقوله) ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِم دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ﴾ وبالجملة فعادة أكثر الخلق ذلك. إذا شاهدوا الأمر الهائل أخصلوا، وإذا انتقلوا إلى الأمن والرفاهية أشركوا به.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٢٠
٢١
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذا نوع آخر من دلائل التوحيد وهو ممزوج بنوع من التخويف فبين كونه تعالى قادراً على إيصال العذاب إليهم من هذه الطرق المختلفة، وأما إرسال العذاب عليهم تارة من فوقهم، وتارة من تحت أرجلهم ففيه قولان : الأول : حمل اللفظ على حقيقته فنقول : العذاب النازل عليهم من فوق مثل المطر النازل عليهم من فوق، كما في قصة نوح والصاعقة النازلة عليهم من فوق. وكذا الصيحة النازلة عليهم من فوق. كما حصب قوم لوط، وكما رمى أصحاب الفيل، وأما العذاب الذي ظهر من تحت أرجلهم. فمثل الرجفة، ومثل خسف قارون. وقيل : هو حبس المطر والنبات وبالجملة فهذه الآية تتناول جميع أنواع العذاب التي يمكن نزولها من فوق، وظهورها من أسفل.


الصفحة التالية
Icon