قلنا : لأن هذا اليوم هو اليوم الذي لا يظهر فيه من أحد نفع ولا ضر، فكان الأمر كما قال سبحانه :﴿وَالامْرُ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلَّهِ﴾ فلهذا السبب حسن هذا التخصيص، ورابعها : قوله :﴿عَـالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ﴾ تقديره، وهو عالم الغيب والشهادة.
واعلم أنا ذكرنا في هذا الكتاب الكامل أنه سبحانه ما ذكر أحوال البعث في القيامة إلا وقرر فيه أصلين : أحدهما : كونه قادراً على كل الممكنات، والثاني : كونه عالماً بكل المعلومات لأن بتقدير أن لا يكون قادراً على كل الممكنات لم يقدر على البعث والحشر ورد الأرواح إلى الأجساد وبتقدير أن لا يكون عالماً بجميع الجزئيات لم يصح ذلك أيضاً منه لأنه ربما اشتبه عليه المطيع بالعاصي. والمؤمن بالكافر، والصديق بالزنديق، فلا يحصل المقصود الأصلي من البعث والقيامة. أما إذا ثبت بالدليل حصول هاتين الصفتين كمل الغرض والمقصود، فقوله :﴿وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ ﴾ / يدل على كمال القدرة، وقوله :﴿عَـالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ﴾ يدل على كمال العلم فلا جرم لزم من مجموعهما أن يكون قوله حقاً، وأن يكون حكمه صدقاً، وأن تكون قضاياه مبرأة عن الجور والعبث والباطل.
ثم قال :﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ والمراد من كونه حكيماً أن يكون مصيباً في أفعاله، ومن كونه خبيراً، كونه عالماً بحقائقها من غير اشتباه ومن غير التباس. والله أعلم.
المسألة الثانية : قد ذكرنا في كثير من هذا الكتاب أنه ليس المراد بقوله :﴿كُن فَيَكُونُ﴾ خطاباً وأمراً لأن ذلك الأمر إن كان للمعدوم فهو محال، وإن كان للموجود فهو أمر بأن يصير الموجود موجوداً وهو محال، بل المراد منه التنبيه على نفاذ قدرته ومشيئته في تكوين الكائنات وإيجاد الموجودات.
المسألة الثالثة : قوله :﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ ﴾ ولا شبهة أن المراد منه يوم الحشر، ولاشبهة عند أهل الإسلام أن الله سبحانه خلق قرناً ينفخ فيه ملك من الملائكة وذلك القرن يسمى بالصور على ما ذكر الله تعالى هذا المعنى في مواضع من الكتاب الكريم ولكنهم اختلفوا في المراد بالصور في هذه الآية على قولين :
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٢٩
القول الأول : أن المراد منه ذلك القرن الذي ينفخ فيه وصفته مذكورة في سائر السور.
والقول الثاني : إن الصور جمع صورة والنفخ في الصور عبارة عن النفخ في صور الموتى، وقال أبو عبيدة : الصور جمع صورة مثل صوف وصوفة. قال الواحدي رحمه الله : أخبرني أبو الفضل العروضي عن الأزهري عن المنذري عن أبي الهيثم : أنه قال ادعى قوم أن الصور جمع الصورة كما أن الصوف جمع الصوفة والثوم جمع الثومة، وروى ذلك عن أبي عبيدة قال أبو الهيثم، وهذا خطأ فاحش لأن الله تعالى قال :﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ﴾ (غافر : ٦٤) وقال :﴿وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ﴾ (يس : ٥١، الزمر : ٦٨) فمن قرأ ونفخ في الصور، وقرأ ﴿فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ﴾ فقد افترى الكذب، وبدل كتاب الله، وكان أبو عبيدة صاحب أخبار وغرائب، ولم يكن له معرفة بالنحو، قال الفراء : كل جمع على لفظ الواحد المذكر سبق جمعه واحده، فواحده بزيادة هاء فيه، وذلك مثل الصوف والوبر والشعر والقطن والعشب فكل واحد من هذه الأسماء اسم لجميع جنسه، وإذا أفردت واحدته زيدت فيها هاء لأن جمع هذا الباب سبق واحده، ولو أن الصوفة كانت سابقة للصوف لقالوا صوفة وصوف وبسرة وبسر كما قالوا غرفة وغرف، وزلفة وزلف، وأما الصور القرن فهو واحد لا يجوز أن يقال واحدته صورة وإنما تجمع صورة الإنسان صوراً لأن واحدته سبقت جمعه، قال الأزهري : قد أحسن أبو الهيثم في هذا الكلام، ولا يجوز عندي غير ما ذهب إليه، وأقول : ومما يقوي هذا الوجه أنه لو كان / المراد نفخ الروح في تلك الصور لأضاف تعالى ذلك النفخ إلى نفسه لأن نفخ الأرواح في الصور يضيفه الله إلى نفسه، كما قال :﴿فَإِذَا سَوَّيْتُه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى﴾ (الحجر : ٢٩) وقال :﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا﴾ وقال :﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً﴾ وأما نفح الصور بمعنى النفخ في القرن، فإنه تعالى يضيفه لا إلى نفسه كما قال :﴿فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ﴾ (المدثر : ٨) وقال :﴿وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ﴾ (الزمر : ٦٨) فهذا تمام القول في هذا البحث، والله أعلم بالصواب.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٢٩
٣٤
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه سبحانه كثيراً يحتج على مشركي العرب بأحوال إبراهيم عليه السلام وذلك لأنه يعترف بفضله جميع الطوائف والملل فالمشركون كانوا معترفين بفضله مقرين بأنهم من أولاده واليهود والنصارى والمسلمون كلهم معظمون له معترفون بجلالة قدره. فلا جرم ذكر الله حكاية حاله في معرض الاحتجاج على المشركين.


الصفحة التالية
Icon