الحجة الثامنة : أن هذه الواقعة إنما حصلت بسبب مناظرة إبراهيم عليه السلام مع قومه، والدليل عليه أنه تعالى لما ذكر هذه القصة قال :﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَـاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِه ﴾ ولم يقل على نفسه، فعلم أن هذه المباحثة إنما جرت مع قومه لأجل أن يرشدهم إلى الإيمان والتوحيد. لا لأجل أن إبراهيم كان يطلب الدين والمعرفة لنفسه.
الحجة التاسعة : أن القوم يقولون إن إبراهيم عليه السلام إنما اشتغل بالنظر في الكواكب والقمر والشمس حال ما كان في الغار، وهذا باطل. لأنه لو كان الأمر كذلك، فكيف يقول ﴿إِلَـاهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِى بَرِى ءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ مع أنه ما كان في الغار لا قوم ولا صنم.
الحجة العاشرة : قال تعالى :﴿وَحَآجَّه قَوْمُه ا قَالَ أَتُحَـا جُّوانِّى فِى اللَّهِ﴾ وكيف يحاجونه وهم بعد ما رأوه وهو ما رآهم، وهذا يدل على أنه عليه السلام إنما اشتغل بالنظر في الكواكب والقمر والشمس بعد أن خالط قومه ورآهم يعبدون الأصنام ودعوه إلى عبادتها فذكر قوله :﴿لا أُحِبُّ الافِلِينَ﴾ رداً عليهم وتنبيهاً لهم على فساد قولهم.
الحجة الحادية عشر : أنه تعالى حكى عنه أنه قال للقوم :﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ﴾ وهذا يدل على أن القوم كانوا خوفوه بالأصنام، كما حكى عن قوم هود عليه السلام أنهم قالوا له :﴿إِن نَّقُولُ إِلا اعْتَرَاـاكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُواءٍ ﴾ (هود : ٥٤) ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق بالغار.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٤٧
الحجة الثانية عشرة : أن تلك الليلة كانت مسبوقة بالنهار، ولا شك أن الشمس كانت طالعة في اليوم المتقدم، ثم غربت، فكان ينبغي أن يستدل بغروبها السابق على أنها لا تصلح للآلهية، وإذا بطل بهذا الدليل صلاحية الشمس للإلهية بطل ذلك أيضاً في القمر والكوكب بطريق الأولى هذا إذا قلنا : إن هذه الواقعة كان المقصود منها تحصيل المعرفة لنفسه. أما إذا قلنا المقصود منها إلزام القوم وإلجاؤهم، فهذا السؤال غير وارد لأنه يمكن أن يقال أنه إنما اتفقت مكالمته مع القوم حال طلوع ذلك النجم، ثم امتدت المناظرة إلى أن طلع القمر وطلعت الشمس بعده وعلى هذا التقدير، فالسؤال غير وارد، فثبت بهذه الدلائل الظاهرة أنه لا يجوز أن يقال إن إبراهيم عليه السلام قال على سبيل الجزم : هذا ربي. وإذا بطل هذا بقي ههنا احتمالان : الأول : أن يقال هذا كلام إبراهيم عليه السلام بعد البلوغ ولكن ليس الغرض منه إثبات ربوبية الكوكب بل الغرض منه أحد أمور سبعة. الأول : أن يقال إن إبراهيم عليه السلام لم يقل هذا ربي، على سبيل الأخبار، بل الغرض منه أنه كان يناظر عبدة الكوكب وكان مذهبهم أن الكوكب ربهم وآلههم، فذكر إبراهيم عليه السلام ذلك القول الذي قالوه بلفظهم وعبارتهم حتى يرجع إليه فيبطله، ومثاله : أن الواحد منا إذا ناظر من يقول بقدم الجسم، فيقول : الجسم قديم ؟
فإذا كان كذلك، فلم نراه ونشاهده مركباً متغيراً ؟
فهو إنما قال الجسم قديم إعادة لكلام الخصم حتى يلزم المحال عليه، فكذا ههنا قال :﴿هَـاذَا رَبِّى ﴾ والمقصود منه حكاية قول الخصم، ثم ذكر غقيبه ما يدل على فساده وهو قوله :﴿لا أُحِبُّ الافِلِينَ﴾ وهذا الوجه هو المتعمد في الجواب، والدليل عليه : أنه تعالى دل في أول الآية على هذه المناظرة بقوله تعالى :﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَـاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِه ﴾.
والوجه الثاني في التأويل : أن نقول قوله :﴿هَـاذَا رَبِّى ﴾ معناه هذا ربي في زعمكم واعتقادكم ونظيره أن يقول الموحد للمجسم على سبيل الاستهزاء : أن إلهه جسم محدود أي في زعمه واعتقاده قال تعالى :﴿وَانظُرْ إِلَى ا إِلَـاهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ﴾ (طه : ٩٧) وقال تعالى :﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآءِىَ﴾ (القصص : ٦٢) وكان صلوات الله تعالى عليه يقول :"يا إله الآلهة". والمراد أنه تعالى إله الآلهة في زعمهم وقال :﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ (الدخان : ٤٩) أي عند نفسك.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٤٧
والوجه الثالث في الجواب : أن المراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار إلا أنه أسقط / حرف الاستفهام استغناء عنه لدلالة الكلام عليه.
والوجه الرابع : أن يكون القول مضمراً فيه، والتقدير : قال يقولون هذا ربي. وإضمار القول كثير، كقوله تعالى :﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاه مُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَـاعِيلُ رَبَّنَا﴾ (البقرة : ١٢٧) أي يقولون ربنا وقوله :﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِه أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ (الزمر : ٣) أي يقولون ما نعبدهم، فكذا ههنا التقدير : إن إبراهيم عليه السلام قال لقومه : يقولون هذا ربي. أي هذا هو الذي يدبرني ويربيني.


الصفحة التالية
Icon