قلنا : هب أن الأمر كما قلتم. إلا أنه لا يمتنع تأكيد التعريف العقلي بالتعريفات المشروعة على ألسنة الأنبياء والرسل عليهم السلام. فثبت أن كل من منع البعثة والرسالة فقد طعن في حكمة الله تعالى. وكان ذلك جهلاً بصفة الإلهية، وحينئذ يصدق في حقه قوله تعالى :﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه ﴾.
الوجه الثاني : في تقرير هذا المعنى أن من الناس من يقول إنه يمتنع بعثة الأنبياء والرسل، لأنه يمتنع إظهار المعجزة على وفق دعواه تصديقاً له، والقائلون بهذا القول لهم مقامان :
المقام الأول : أن يقولوا إنه ليس في الإمكان خرق العادات ولا إيجاد شيء على خلاف ما جرت به العادة.
والمقام الثاني : الذين يسلمون إمكان ذلك. إلا أنهم يقولون إن بتقدير حصول هذه الأفعال الخارقة للعادات لا دلالة لها على صدق مدعي الرسالة، وكلا الوجهين يوجب القدح في كمال قدرة الله تعالى.
أما المقام الأول : فهو أنه ثبت أن الأجسام متماثلة. وثبت أن ما يحتمله الشيء وجب أن يحتمله مثله، وإذا كان كذلك كان جرم الشمس والقمر قابلاً للتمزق والتفرق.
فإن قلنا : إن الإله غير قادر عليه كان ذلك وصفاً له بالعجز ونقصان القدرة، وحينئذ يصدق في حق هذا القائل : أنه ما قدر الله حق قدره.
وإن قلنا : إنه تعالى قادر عليه، فحينئذ لا يمتنع عقلاً انشقاق القمر، ولا حصول سائر المعجزات.
وأما المقام الثاني : وهو أن حدوث هذه الأفعال الخارقة للعادة عند دعوى مدعي النبوة تدل على صدقهم، فهذا أيضاً ظاهر على ما مقرر في كتب الأصول. فثبت أن كل من أنكر إمكان البعثة والرسالة، فقد وصف الله بالعجز ونقصان القدرة، وكل من قال ذلك فهو ما قدر الله حق قدره.
والوجه الثالث : أنه لما ثبت حدوث العالم، فنقول : حدوثه يدل على أن إله العالم قادر عالم حكيم، وأن الخلق كلهم عبيده وهو مالك لهم على الإطلاق، وملك لهم على الإطلاق، والملك المطاع يجب أن يكون له أمر ونهي وتكليف على عباده، وأن يكون له وعد على الطاعة، ووعيد على المعصية، وذلك لا يتم ولا يكمل إلا بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، فكل من أنكر ذلك فقد طعن في كونه تعالى ملكاً مطاعاً، ومن اعتقد ذلك فهو ما قدر الله حق قدره، فثبت أن كل من قال ما أنزل الله علي بشر من شيء فهو ما قدر الله حق قدره.
المسألة الثالثة : في هذه الآية بحث صعب، وهو أن يقال : هؤلاء الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا :﴿مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَىْءٍ ﴾ إما أن يقال : إنهم كفار قريش أو يقال إنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فإن كان الأول، فكيف يمكن إبطال قولهم بقوله تعالى :﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَـابَ الَّذِى جَآءَ بِه مُوسَى ﴾ وذلك لأن كفار قريش والبراهمة كما ينكرون رسالة محمد صلى الله عليه وسلّم فكذلك ينكرون رسالة سائر الأنبياء، فكيف يحسن إيراد هذا الإلزام عليهم، وأما إن كان الثاني وهو أن قائل هذا القول قوم من اليهود والنصارى، فهذا أيضاً صعب مشكل، لأنهم لا يقولون هذا القول، وكيف يقولونه مع أن مذهبهم أن التوراة كتاب أنزله الله على موسى، والإنجيل : كتاب أنزله الله على عيسى ؛ وأيضاً فهذه السورة مكية، والمناظرات التي وقعت بين رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبين اليهود والنصارى كلها مدنية، فكيف يمكن حمل هذه الآية عليها، فهذا تقرير الإشكال القائم في هذه الآية. واعلم أن الناس اختلفوا فيه على قولين :
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٦٤
فالقول الأول : إن هذه الآية نزلت في حق اليهود وهو القول المشهور عند الجمهور. قال ابن عباس : إن مالك بن الصيف كان من أحبار اليهود ورؤسائهم، وكان رجلاً سميناً فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها إن الله يبغض الحبر السمين وأنت الحبر السمين وقد سمنت من الأشياء التي تطعمك اليهود" فضحك القوم، فغضب مالك بن الصيف، ثم التفت إلى عمر فقال : ما أنزل الله على بشر من شيء. فقال له قومه : ويلك ما هذا الذي بلغنا عنك ؟
فقال : إنه أغضبني، / ثم إن اليهود لأجل هذا الكلام عزلوه عن رياستهم، وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف، فهذا هو الرواية المشهورة في سبب نزول هذه الآية، وفيها سؤالات :


الصفحة التالية
Icon