ثم قال تعالى :﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ قال الزجاج : عذاب الهون أي العذاب الذي يقع به الهوان الشديد. قال تعالى :﴿أَيُمْسِكُه عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّه فِى التُّرَابِ ﴾ (النحل : ٥٩) والمراد منه أنه تعالى جمع هناك بين الإيلام وبين الإهانة، فإن الثواب شرطه أن يكون منفعة مقرونة بالتعظيم، فكذلك العقاب شرطه أن يكون مضرة مقرونة بالإهانة. قال بعضهم : الهون هو الهوان، والهون هو الرفق والدعة. قال تعالى :﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَـن ِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الارْضِ هَوْنًا﴾ (الفرقان : ٦٣) وقوله :﴿بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ ءَايَـاتِه تَسْتَكْبِرُونَ﴾ (الأنعام : ٩٣) وذلك يدل أن هذا العذاب الشديد إنما حصل بسبب مجموع الأمرين الافتراء على الله، والتكبر على آيات الله. وأقول : هذان النوعان من الآفات والبلاء ترى أكثر المتوسمين بالعلم متوغلين فيه مواظبين عليه نعوذ بالله منه ومن آثاره ونتائجه. وذكر الواحدي : أن المراد بقوله :﴿وَكُنتُمْ عَنْ ءَايَـاتِه تَسْتَكْبِرُونَ﴾ أي لا تصلون له قال عليه السلام :"من سجد لله سجدة بنية صادقة فقد برىء من الكبر".
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٦٩
٧١
اعلم أن قوله :﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى ﴾ يحتمل وجهين : الأول : أن يكون هذا معطوفاً على قول الملائكة ﴿أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ﴾ فبين تعالى أنهم كما يقولون ذلك على وجه التوبيخ، كذلك يقولون حكاية عن الله تعالى :﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى ﴾ فيكون الكلام أجمع حكاية عنهم وأنهم يوردون ذلك على هؤلاء الكفار، وعلى هذا التقدير، / فيحتمل أن يكون قائل هذا القول الملائكة الموكلين بقبض أرواحهم، ويحتمل أن يكون القائل هم الملائكة الموكلون بعقابهم.
والقول الثاني : أن قائل هذا القول هو الله تعالى ومنشأ هذا الاختلاف إن الله تعالى هل يتكلم مع الكفار أو لا ؟
فقوله تعالى في صفة الكفار :﴿وَلا يُكَلِّمُهُمُ﴾ يوجب أن لا يتكلم معهم وقوله :﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْـاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (الحجر : ٩٢) وقوله :﴿فَلَنَسْـاَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْـاَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الأعراف : ٦) يقتضي أن أن يكون تعالى يتكلم معهم، فلهذا السبب وقع هذا الاختلاف، والقول الأول أقوى، لأن هذه الآية معطوفة على ما قبلها، والعطف يوجب التشريك.
المسألة الثانية :﴿فُرَادَى ﴾ لفظ جمع وفي واحده قولان. قال ابن قتيبة : فرادى جمع فردان، مثل سكارى وسكران، وكسالى وكسلان. وقال غيره فرادى : جمع فريد، مثل ردافى ورديف. وقال الفراء : فرادى جمع واحده فرد وفردة وفريد وفردان.
إذا عرفت هذا فقوله :﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى ﴾ المراد منه التقريع والتوبيخ، وذلك لأنهم صرفوا جدهم وجهدهم في الدنيا إلى تحصيل أمرين : أحدهما : تحصيل المال والجاه. والثاني : أنهم عبدوا الأصنام لاعتقادهم أنها تكون شفعاء لهم عند الله، ثم إنهم لما وردوا محفل القيامة لم يبق معهم شيء من تلك الأموال ولم يجدوا من تلك الأصنام شفاعة لهم عند الله تعالى فبقوا فرادى عن كل ما حصلوه في الدنيا وعولوا عليه، بخلاف أهل الإيمان فإنهم صرفوا عمرهم إلى تحصيل المعارف الحقة والأعمال الصالحة، وتلك المعارف والأعمال الصالحة بقيت معهم في قبورهم وحضرت معهم في مشهد القيامة، فهم في الحقيقة ما حضروا فرادى، بل حضروا مع الزاد ليوم المعاد :
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٧١
ثم قال تعالى :﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ نافع وحفص عن عاصم والكسائي ﴿بَيْنِكُمْ﴾ بالنصب، والباقون بالرفع قال الزجاج : الرفع أجود، ومعناه، لقد تقطع وصلكم، والنصب جائز والمعنى : لقد تقطع ما كنتم فيه من الشركة بينكم. قال أبو علي : هذا الاسم يستعمل على ضربين : أحدهما : أن يكون اسماً منصرفاً كالافتراق، والأجود أن يكون ظرفاً والمرفوع في قراءة من قرأ ﴿بَيْنِكُمْ﴾ هو الذي كان ظرفاً ثم استعمل اسماً، والدليل على جواز كونه اسماً قوله تعالى :﴿وَمِنا بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ (فصلت : ٥) و﴿هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ﴾ (الكهف : ٧٨) فلما استعمل اسماً في هذه المواضع جاز أن يسند إليه الفعل الذي هو ﴿تُقَطَّعَ﴾ في قول من رفع. قال : ويدل على أن هذا المرفوع هو الذي استعمل ظرفاً أنه لا يخلو من أن يكون الذي هو ظرف اتسع فيه أو يكون الذي هو مصدر. والقسم الثاني باطل/ وإلا لصار تقدير الآية : لقد / تقطع افتراقكم وهذا ضد المراد، لأن المراد من الآية لقد تقطع وصلكم وما كنتم سالفون عليه.
فإن قيل : كيف جاز أن يكون بمعنى الوصل مع أن أصله الافتراق والتباين ؟


الصفحة التالية
Icon