فانظر أيها المسكين بعين رأسك في تلك الورقة الواحدة من تلك الشجرة، واعرف كيفية خلقة تلك العروق والأوتار فيها، ثم انتقل من مرتبة إلى ما فوقها حتى تعرف أن المقصود الأخير منها حصول المعرفة والمحبة في الأرواح البشرية، فحينئذ ينفتح عليك باب من المكاشفات لا آخر لها، ويظهر لك أن أنواع نعم الله في حقك غير متناهية/ كما قال :﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ ﴾ (إبراهيم : ٣٤) وكل ذلك إنما ظهر من كيفية خلقة تلك الورقة من الحبة والنواة، فهذا كلام مختصر في تفسير قوله :﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ﴾ ومتى وقف الإنسان عليه أمكنه تفريقها وتشعيبها إلى ما لا آخر له، ونسأل الله التوفيق والخداية.
المسألة الثانية : أما قوله تعالى :﴿يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ ﴾ ففيه مباحث : الأول : أن ﴿الْحَىِّ﴾ اسم لما يكون موصوفاً بالحياة، و﴿الْمَيِّتِ﴾ اسم لما كان خالياً عن صفة الحياة فيه، وعلى هذا التقدير : النبات لا يكون حياً.
إذا عرفت هذا فللناس في تفسير هذا ﴿الْحَىِّ﴾ و﴿الْمَيِّتِ﴾ قولان : الأول : حمل هذين اللفظين على الحقيقة. قال ابن عباس : يخرج من النطفة بشراً حياً، ثم يخرج من البشر الحي نطفة ميتة، وكذلك يخرج من البيضة فروجة حية، ثم يخرج من الدجاجة بيضة ميتة، والمقصود منه أن الحي والميت متضادان متنافيان، فحصول المثل عن المثل يوهم أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية. أما حصول الضد من الضد، فيمتنع أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية، بل لا بد وأن يكون بتقدير المقدر الحكيم، والمدبر العليم.
والقول الثاني : أن يحمل ﴿الْحَىِّ﴾ و﴿الْمَيِّتِ﴾ على ما ذكرناه، وعلى الوجوه المجازية أيضاً، وفيه وجوه : الأول : قال الزجاج : يخرج النبات الغض الطري الخضر من الحب اليابس ويخرج اليابس من النبات الحي النامي. الثاني : قال ابن عباس : يخرج المؤمن من الكافر، كما في حق إبراهيم، والكافر من المؤمن / كما في حق ولد نوح، والعاصي من المطيع، وبالعكس. الثالث : قد يصير بعض ما يقطع عليه بأنه يوجب المضرة سبباً للنفع العظيم، وبالعكس. ذكروا في الطب أن إنساناً سقوه الأفيون الكثير في الشراب لأجل أن يموت، فلما تناوله وظن القوم أنه سيموت في الحال رفعوه من موضعه ووضعوه في بيت مظلم فخرجت حية عظيمة فلدغته فصارت تلك اللدغة سبباً لاندفاع ضرر ذلك الأفيون منه، فإن الأفيون يقتل بقوة برده، وسم الأفعى يقتل بقوة حره فصارت تلك اللدغة سبباً لاندفاع ضرر الأفيون، فههنا تولد عما يعتقد فيه كونه أعظم موجبات الشر أعظم الخيرات، وقد يكون بالعكس من ذلك، وكل هذه الأحوال المختلفة والأفعال المتدافعة تدل على أن لهذا العالم مدبراً حكيماً ما أهمل مصالح الخلق وما تركهم سدى، وتحت هذه المباحث مباحث عالية شريفة.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٧٥
البحث الثاني : من مباحث هذه الآية قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم ﴿الْمَيِّتِ﴾ مشددة في الكلمتين والباقون بالتخفيف في الكلمتين، وكذلك كل هذا الجنس في القرآن.
البحث الثالث : أن لقائل أن يقول : إنه قال أولاً :﴿يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ ثم قال :﴿وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ ﴾ وعطف الاسم على الفعل قبيح، فما السبب في اختيار ذلك ؟
قلنا : قوله :﴿وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ ﴾ معطوف على قوله :﴿فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ﴾ وقوله :﴿يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ كالبيان والتفسير لقوله :﴿فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ﴾ لأن فلق الحب والنوى بالنبات والشجر النامي من جنس إخراج الحي من الميت، لأن النامي في حكم الحيوان. ألا ترى إلى قوله ﴿يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ وفيه وجه آخر، وهو أن لفظ الفعل يدل على أن ذلك الفاعل يعتني بذلك الفعل في كل حين وأوان. وأما لفظ الاسم فإنه لا يفيد التجدد والاعتناء به ساعة فساعة، وضرب الشيخ عبد القاهر الجرجاني لهذا مثلاً في كتاب "دلائل الإعجاز" فقال : قوله :﴿هَلْ مِنْ خَـالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ﴾ إنما ذكره بلفظ الفعل وهو قوله :﴿يَرْزُقُكُمْ﴾ لأن صيغة الفعل تفيد أنه تعالى يرزقهم حالاً فحالاً وساعة فساعة. وأما الاسم فمثاله قوله تعالى :﴿وَكَلْبُهُم بَـاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ﴾ (الكهف : ١٨) فقوله :﴿بَسَطَ﴾ يفيد البقاء على تلك الحالة الواحدة.
إذا ثبت هدا فنقول : الحي أشرف من الميت، فوجب أن يكون الاعتناء بإخراج الحي من الميت أكثر من الاعتناء بإخراج الميت من الحي، فلهذا المعنى وقع التعبير عن القسم الأول بصيغة الفعل، وعن الثاني بصيغة الاسم ؛ تنبيهاً على أن الاعتناء بإيجاد الحي من الميت أكثر وأكمل من الاعتناء بإيجاد الميت من الحي. والله أعلم بمراده.
ثم قال تعالى في آخر الآية :﴿ذَالِكُمُ اللَّه فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ وفيه مسألتان :


الصفحة التالية
Icon