جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٨٢
إذا عرفت هذا فنقول : كثر اختلاف المفسرين في تفسير هذين اللفظين على أقوال : فالأول : وهو المنقول عن ابن عباس في أكثر الروايات أن المستقر هو الأرحام والمستودع الأصلاب قال كريب : كتب جرير إلى ابن عباس يسأله عن هذه الآية فأجاب المستودع الصلب والمستقر الرحم ثم قرأ :﴿وَنُقِرُّ فِى الارْحَامِ مَا نَشَآءُ﴾ (الحج : ٥) ومما يدل أيضاً على قوة هذا القول أن النطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زماناً طويلاً والجنين يبقى في رحم الأم زماناً طويلاً، ولما كان المكث في الرحم أكثر مما في صلب الأب كان حمل الاستقرار على المكث في الرحم أولى.
والقول الثاني : أن المستقر صلب الأب والمستودع رحم الأم، لأن النطفة حصلت في صلب الأب لا من قبل الغير وهي حصلت في رحم الأم بفعل الغير، فحصول تلك النطفة في الرحم من قبل الرجل مشبه بالوديعة لأن قوله ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ﴾ يقتضي كون المستقر متقدماً على المستودع وحصول النطفة في صلب الأب مقدم على حصولها في رحم الأم/ فوجب أن يكون المستقر ما في أصلاب الآباء، والمستودع ما في أرحام الأمهات.
والقول الثالث : وهو قول الحسن المستقر حاله بعد الموت لأنه إن كان سعيداً فقد استقرت تلك السعادة، وإن كان شقياً فقد استقرت تلك الشقاوة ولا تبديل في أحوال الإنسان بعد الموت وأما قبل الموت فالأحوال متبدلة. فالكافر قد ينقلب مؤمناً والزنديق قد ينقلب صديقاً، فهذه الأحوال لكونها على شرف الزوال والفناء لا يبعد تشبيهها بالوديعة التي تكون مشرفة على الزوال والذهاب.
والقول الرابع : وهو قول الأصم. إن المستقر من خلق من النفس الأولى ودخل الدنيا واستقر فيها، والمستودع الذي لم يخلق بعد وسيخلق.
والقول الخامس : للأصم أيضاً المستقر من استقر في قرار الدنيا والمستودع من في القبور حتى يبعث. وعن قتادة على العكس منه فقال مستقر في القبر ومستودع في الدنيا.
القول السادس : قول أبي مسلم الأصبهاني أن التقدير هو الذي أنشأكم من نفس واحدة / فمنكم مستقر ذكر ومنكم مستودع أنثى إلا أنه تعالى عبر عن الذكر بالمستقر لأن النطفة إنما تتولد في صلبه وإنما تستقر هناك وعبر عن الأنثى بالمستودع لأن رحمها شبيهة بالمستودع لتلك النطفة. والله أعلم.
المبحث الثالث : مقصود الكلام أن الناس إنما تولدوا من شخص واحد وهو آدم عليه السلام، ثم اختلفوا في المستقر والمستودع بحسب الوجوه المذكورة فنقول : الأشخاص الإنسانية متساوية في الجسمية ومختلفة في الصفات التي باعتبارها حصل التفاوت في المستقر والمستودع والاختلاف في تلك الصفات لا بد له من سبب ومؤثر وليس السبب هو الجسمية ولوازمها وإلا لامتنع حصول التفاوت في الصفات، فوجب أن يكون السبب هو الفاعل المختار الحكيم ونظير هذه الآية في الدلالة قوله تعالى :﴿وَاخْتِلَـافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ﴾.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٨٢
ثم قال تعالى :﴿قَدْ فَصَّلْنَا الايَـاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾ والمراد من هذا التفصيل أنه بين هذه الدلائل على وجه الفصل للبعض عن البعض. ألا ترى أنه تعالى تمسك أولاً بتكوين النبات والشجر من الحب والنوى، ثم ذكر بعده التمسك بالدلائل الفلكية من ثلاثة وجوه، ثم ذكر بعده التمسك بأحوال تكوين الإنسان فقد ميز تعالى بعض هذه الدلائل عن بعض، وفصل بعضها عن بعض لقوم يفقهون، وفيه أبحاث : الأول : قوله :﴿لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾ ظاهره مشعر بأنه تعالى قد يفعل الفعل لغرض وحكمة.
وجواب أهل السنة : أن اللام لام العاقبة، أو يكون ذلك محمولاً على التشبيه بحال من يفعل الفعل لغرض. والثاني : أن هذه الآية تدل على أنه تعالى أراد من جميع الخلق الفقه، والفهم والإيمان. وما أراد بأحد منهم الكفر. وهذا قول المعتزلة.
وجواب أهل السنة : أن المراد منه كأنه تعالى يقول : إنما فصلت هذا البيان لمن عرف وفقه وفهم، وهم المؤمنون لا غير. والثالث : أنه تعالى ختم الآية السابقة، وهي الآية التي استدل فيها بأحوال النجوم بقوله :﴿يَعْلَمُونَ﴾ وختم آخر هذه الآية بقوله :﴿يَفْقَهُونَ﴾ والفرق أن إنشاء الإنس من واحدة، وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيراً، فكان ذكر الفقه ههنا لأجل أن الفقه يفيد مزيد فطنة وقوة وذكاء وفهم. والله أعلم.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٨٢
٨٨
اعلم أن هذا النوع الخامس من الدلائل الدالة على كمال قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته ووجوه إحسانه إلى خلقه.
واعلم أن هذه الدلائل كما أنها دلائل فهي أيضاً نعم بالغة، وإحسانات كاملة، والكلام إذا كان دليلاً من بعض الوجوه، وكان إنعاماً وأحساناً من سائر الوجوه. كان تأثيره في القلب عظيماً، وعند هذا يظهر أن المشتغل بدعوة الخلق إلى طريق الحق لا ينبغي أن يعدل عن هذه الطريقة. وفي الآية مسائل :


الصفحة التالية
Icon