البحث الأول : ظاهر قوله :﴿فَأَخْرَجْنَا بِه نَبَاتَ كُلِّ شَىْءٍ﴾ يدل على أنه تعالى إنما أخرج النبات بواسطة الماء، وذلك يوجب القول بالطبع والمتكلمون ينكرونه، وقد بالغنا في تحقيق هذه المسألة في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى :﴿وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِه مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ﴾ فلا فائدة في الإعادة.
البحث الثاني : قال الفراء : قوله :﴿فَأَخْرَجْنَا بِه نَبَاتَ كُلِّ شَىْءٍ﴾ ظاهره يقتضي أن يكون لكل شيء نبات. وليس الأمر كذلك، فكان المراد فأخرجنا به نبات كل شيء له نبات، فإذا كان كذلك، فالذي لا نبات له لا يكون داخلاً فيه.
البحث الثالث : قوله :﴿فَأَخْرَجْنَا بِه ﴾ بعد قوله :﴿أَنزَلَ﴾ يسمى التفاتاً. ويعد ذلك من الفصاحة.
واعلم أن أصحاب العربية ادعوا أن ذلك يعد من الفصاحة. وما بينوا أنه من أي الوجوه يعد من هذا الباب ؟
وأما نحن فقد أطنبنا فيه في تفسير قوله تعالى :﴿حَتَّى ا إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ (يونس : ٢٢) فلا فائدة في الإعادة.
والبحث الرابع : قوله :﴿فَأَخْرَجْنَا﴾ صيغة الجمع. والله واحد فرد لا شريك له، إلا أن الملك العظيم إذا كنى عن نفسه، فإنما يكنى بصيغة الجمع، فكذلك ههنا. ونظيره قوله :﴿إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾.
أما قوله :﴿فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا﴾ فقال الزجاج : معنى خضر، كمعنى أخضر/ يقال أخضر / فهو أخضر وخضر، مثل أعور فهو أعور وعور. وقال الليث : الخضر في كتاب الله هو الزرع وفي الكلام كل نبات من الخضر، وأقول إنه تعالى حصر النبت في الآية المتقدمة في قسمين : حيث قال :﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ﴾ فالذي ينبت من الحب هو الزرع، والذي ينبت من النوى هو الشجر فاعتبر هذه القسمة أيضاً في هذه الآية فابتدأ بذكر الزرع، وهو المراد بقوله :﴿فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا﴾ وهو الزرع، كما رويناه عن الليث. وقال ابن عباس : يريد القمح والشعير والسلت والذرة والأرز، والمراد من هذا الخضر العود الأخضر الذي يخرج أولاً ويكون السنبل في أعلاه وقوله :﴿نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا﴾ يعني يخرج من ذلك الخضر حباً متراكباً بعضه على بعض في سنبلة واحدة، وذلك لأن الأصل هو ذلك العود الأخضر وتكون السنبلة مركبة عليه من فوقه وتكون الحبات متراكبة بعضها فوق بعض، ويحصل فوق السنبلة أجسام دقيقة حادة كأنها الأبر، والمقصود من تخليقها أن تمنع الطيور من التقاط تلك الحبات المتراكبة.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٨٨
ولما ذكر ما ينبت من الحب أتبعه بذكر ما ينبت من النوى، وهو القسم الثاني فقال :﴿وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ﴾ وههنا مباحث :
البحث الأول : أنه تعالى قدم ذكر الزرع على ذكر النخل، وهذا يدل على أن الزرع أفضل من النخل. وهذا البحث قد أفرد الجاحظ فيه تصنيفاً مطولاً.
البحث الثاني : روى الواحدي عن أبي عبيدة أنه قال : أطلعت النخل إذا أخرجت طلعها وطلعها كيزانها قبل أن ينشق عن الأغريض، والأغريض يسمى طلعاً أيضاً. قال والطلع أول ما يرى من عذق النخلة، الواحدة طلعة. وأما ﴿قِنْوَانٌ﴾ فقال الزجاج : القنوان جمع قنو. مثل صنوان وصنو. وإذا ثنيت القنو قلت قنوان بكسر النون، فجاء هذا الجمع على لفظ الاثنين والإعراب في النون للجمع.
إذا عرفت تفسير اللفظ فنقول : قوله :﴿قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ﴾ قال ابن عباس : يريد العراجين التي قد تدلت من الطلع دانية ممن يجتنيها. وروى عنه أيضاً أنه قال : قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض قال الزجاج : ولم يقل ومنها قنوان بعيدة لأن ذكر أحد القسمين يدل على الثاني كما قال :﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ (النحل : ٨١) ولم يقل سرابيل تقيكم البرد، لأن ذكر أحد الضدين يدل على الثاني، فكذا ههنا وقيل أيضاً : ذكر الدانية في القريبة، وترك البعيدة لأن النعمة في القريبة أكمل وأكثر.
والبحث الثالث : قال صاحب "الكشاف" ﴿قِنْوَانٌ﴾ رفع بالابتداء ﴿وَمِنَ النَّخْلِ﴾ خبره ﴿مِن طَلْعِهَا﴾ بدل منه كأنه قيل : وحاصلة من طلع النخل قنوان، ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً لدلالة / أخرجنا عليه تقديره، ومخرجه من طلع النخل قنوان. ومن قرأ يخرج منه ﴿حُبَّ﴾ كان ﴿طَلْعِهَا قِنْوَانٌ﴾ عنده معطوفاً على قوله :﴿حُبَّ﴾ وقرىء ﴿قِنْوَانٌ﴾ بضم القاف وبفتحها على أنه اسم جمع كركب لأن فعلان ليس من باب التكسير.
ثم قال تعالى :﴿وَجَنَّـاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ﴾ وفيه أبحاث :


الصفحة التالية
Icon