واعلم أن بعد هذا المذهب الذي نصرناه بالأقوال التي حكيناها قول قطرب : من أن المشركين قال بعضهم لبعض :"لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه" فكان إذا تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أول هذه السورة بهذه الألفاظ ما فهموا منها شيئاً، والإنسان حريص على ما منع، فكانوا يصغون إلى القرآن ويتفكرون ويتدبرون في مقاطعه ومطالعه ؛ رجاء أنه ربما جاء كلام يفسر ذلك المبهم، ويوضح ذلك المشكل. فصار ذلك وسيلة إلى أن يصيروا مستمعين للقرآن ومتدبرين في مطالعه ومقاطعه. والذي يؤكد هذا المذهب أمران : أحدهما : أن هذه الحروف ما جاءت إلا في أوائل السور، وذلك يوهم أن الغرض ما ذكرنا والثاني : أن العلماء قالوا : أن الحكمة في إنزال المتشابهات هي أن المعلل لما علم اشتمال القرآن على المتشابهات فإنه يتأمل القرآن ويجتهد في التفكر فيه على رجاء أنه ربما وجد شيئاً يقوي قوله وينصر مذهبه، فيصير ذلك سبباً لوقوفه على المحكمات المخلصة له عن الضلالات، فإذا جاز إنزال المتشابهات التي توهم الضلالات لمثل هذا الغرض فلأن يجوز إنزال هذه الحروف التي لا توهم شيئاً من الخطأ والضلال لمثل هذا الغرض كان أولى. أقصى ما في الباب أن يقال : لو جاز ذلك فليجز أن يتكلم بالزنجية مع العربي. وأن يتكلم بالهذيان لهذا الغرض، وأيضاً فهذا يقدح في كون القرآن هدى وبياناً، لكنا نقول : لم لا يجوز أن يقال : إن الله تعالى إذا تكلم بالزنجية مع العربي ـ وكان ذلك متضمناً لمثل هذه المصلحة ـ فإن ذلك يكون جائزاً ؟
وتحقيقه أن الكلام فعل من الأفعال، والداعي إليه قد يكون هو الإفادة/ وقد يكون غيرها، قوله :"أنه يكون هذياناً" قلنا : إن عنيت بالهذيان الفعل الخالي عن المصلحة بالكلية فليس الأمر كذلك، وإن عنيت به الألفاظ الخالية عن الإفادة فلم قلت أن ذلك يقدح في الحكمة إذا كان فيها وجوه أخر من المصلحة سوى هذا الوجه ؟
وأما وصف القرآن بكونه هدى وبياناً فذلك لا ينافي ما قلناه ؛ لأنه إذا كان الغرض ما ذكرناه كان استماعها من أعظم وجوه البيان والهدى والله أعلم.
القول بأنها أسماء السور :
فروع على القول بأنها أسماء السور : الأول : هذه الأسماء على ضربين : أحدهما : يتأتى فيه الإعراب، وهو أما أن يكون اسماً مفرداً "كصاد، وقاف، ونون" أو أسماء عدة مجموعها على زنة مفرد كحم، وطس ويس ؛ فإنها موازنة لقابيل وهابيل، وأما طسم فهو وإن كان مركباً من ثلاثة أسماء فهو كدر ابجرد، وهو من باب ما لا ينصرف، لاجتماع سببين فيها وهما العلمية والتأنيث. والثاني : ما لا يتأتى فيه الإعراب، نحو كهيعص، والمر، إذا عرفت هذا فنقول : أما المفردة ففيها قراءتان : إحداهما : قراءة من قرأ صاد وقاف ونون بالفتح، وهذه الحركة يحتمل أن تكون هي النصب بفعل مضمر نحو : اذكر، وإنما لم يصحبه التنوين لامتناع الصرف كما تقدم بيانه وأجاز / سيبويه مثله في حم وطس ويس لو قرىء به، وحكى السيرافي أن بعضهم قرأ "يس" بفتح النون ؛ وأن يكون الفتح جراً، وذلك بأن يقدرها مجرورة بإضمار الباء القسمية، فقد جاء عنهم :"الله لأفعلن" غير أنها فتحت في موضع الجر لكونها غير مصروفة، ويتأكد هذا بما روينا عن بعضهم "أن الله تعالى أقسم بهذه الحروف"، وثانيتهما : قراءة بعضهم صاد بالكسر. وسببه التحريك لالتقاء الساكنين. أما القسم الثاني ـ وهو ما لا يتأتى الإعراب فيه ـ فهو يجب أن يكون محكياً، ومعناه أن يجاء بالقول بعد نقله على استبقاء صورته الأولى كقولك :"دعني من تمرتان".
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٤٩
الثاني : أن الله تعالى أورد في هذه الفواتح نصف أسامي حروف المعجم : أربعة عشر سواء، وهي : الألف، واللام، والميم، والصاد، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين والطاء، والسين، والحاء، والقاف، والنون في تسع وعشرين سورة.
الثالث : هذه الفواتح جاءت مختلفة الأعداد، فوردت "ص ق ن" على حرف، و"طه وطس ويس وحم" على حرفين، و"آلم والر وطسم" على ثلاثة أحرف، والمص والمر على أربعة أحرف، و"كهعيص وحم عسق" على خمسة أخرف، والسبب فيه أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف فقط فكذا ههنا.
الرابع : هل لهذه الفواتح محل من الإعراب أم لا ؟
فنقول : إن جعلناها أسماء للسور فنعم، ثم يحتمل الأوجه الثلاثة، أما الرفع فعلى الابتداء، وأما النصب والجر فلما مر من صحة القسم بها، ومن لم يجعلها أسماء للسور لم يتصور أن يكون لها محل على قوله، كما لا محل للجمل المبتدأ وللمفردات المعدودة.
الإشارة في "ذلك الكتاب" :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٤٩
٢٥٨
قوله تعالى :﴿ذَالِكَ الْكِتَـابُ﴾ وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon