والبحث الثاني : يقال : اشتبه الشيآن وتشابها كقولك استويا وتساويا، والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً، وقرىء ﴿مُتَشَـابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَـابِهٍ ﴾.
والبحث الثالث : إنما قال مشتبهاً ولم يقل مشتبهين إما اكتفاء بوصف أحدهما، أو على تقدير : والزيتون مشتبهاً وغير متشابه والرمان كذلك كقوله :
رماني بأمر كنت منه ووالدي
بريا ومن أجل الطوى رماني
ثم قال تعالى :﴿انظُرُوا إِلَى ثَمَرِه إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِه ﴾ وفيه مباحث :
البحث الأول : قرأ حمزة والكسائي ﴿ثَمَرِه ﴾ بضم الثاء والميم، وقرأ أبو عمرو ﴿ثَمَرِه ﴾ بضم الثاء وسكون الميم والباقون بفتح الثاء والميم. أما قراءة حمزة والكسائي : فلها وجهان :
الوجه الأول : وهو الأبين أن يكون جمع ثمرة على ثمر كما قالوا : خشبة وخشب. قال تعالى :﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ﴾ (المنافقون : ٤) وكذلك أكمة وأكم. ثم يخففون فيقولون أكم. قال الشاعر :
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٨٨
ترى الأكم فيها سجداً للحوافر
والوجه الثاني : أن يكون جمع ثمرة على ثمار. ثم جمع ثماراً على ثمر فيكون ثمر جمع الجمع، وأما قراءة أبي عمرو فوجهها أن تخفيف ثمر ثمر كقولهم : رسل ورسل. وأما قراءة الباقين فوجهها : أن الثمر جمع ثمرة، مثل بقرة وبقر، وشجرة وشجر، وخرزة وخرز.
والبحث الثاني : قال الواحدي : الينع النضج. قال أبو عبيدة : يقال ينع يينع، بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل. وقال الليث : ينعت الثمرة بالكسر، وأينعت فهي تينع وتونع إيناعاً وينعاً بفتح الياء، وينعاً بضم الياء، والنعت يانع ومونع. قال صاحب "الكشاف" : وقرىء ﴿وَيَنْعِه ﴾ بضم الياء، وقرأ ابن محيصن.
والبحث الثالث : قوله :﴿مُتَشَـابِهٍا انظُرُوا إِلَى ثَمَرِه إِذَآ أَثْمَرَ﴾ أمر بالنظر في حال الثمر في أول حدوثها. وقوله :﴿وَيَنْعِه ﴾ أمر بالنظر في حالها عند تمامها وكمالها، وهذا هو موضع الاستدلال والحجة التي هي تمام المقصود من هذه الآية. ذلك لأن هذه الثمار والأزهار تتولد في أول حدوثها على صفات مخصوصة، وعند تمامها وكمالها لا تبقى على حالاتها الأولى، بل تنتقل إلى أحوال مضادة للأحوال السابقة، مثل أنها كانت موصوفة بلون الخضرة فتصير ملونة بلون السواد أو بلون الحمرة، وكانت موصوفة بالحموضة فتصير موصوفة بالحلاوة، وربما كانت في أول الأمر باردة بحسب الطبيعة، فتصير في آخر الأمر حارة بحسب الطبيعة، فحصول هذه التبدلات والتغيرات لا بد له من سبب، وذلك السبب ليس هو تأثير الطبائع والفصول والأنجم والأفلاك، لأن نسبة هذه الأحوال بأسرها إلى جميع هذه الأجسام المتباينة متساوية متشابهة، والنسب المتشابهة لا يمكن أن تكون أسباباً لحدوث الحوادث المختلفة، ولما بطل إسناد حدوث هذه الحوادث إلى الطبائع والأنجم والأفلاك وجب إسنادها إلى القادر المختار الحكيم الرحيم المدبر لهذا العالم على وفق الرحمة والمصلحة والحكمة. ولما نبه الله سبحانه على ما في هذا الوجه اللطيف من الدلالة قال :﴿إِنَّ فِى ذَالِكُمْ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ قال القاضي : المراد لمن يطلب الإيمان بالله تعالى/ لأنه آية لمن آمن ولمن لم يؤمن، ويحتمل أن يكون / وجه تخصيص المؤمنين بالذكر أنهم الذين انتفعوا به دون غيرهم كما تقدم تقريره في قوله ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٨٨
ولقائل أن يقول : بل المراد منه أن دلالة هذا الدليل على إثبات الإله القادر المختار ظاهرة قوية جلية، فكأن قائلاً قال : لم وقع الاختلاف بين الخلق في هذه المسألة مع وجود مثل هذه الدلالة الجلية الظاهرة القوية ؟
فأجيب عنه بأن قوة الدليل لا تفيد ولا تنفع إلا إذا قدر الله للعبد حصول الإيمان، فكأنه قيل : هذه الدلالة على قوتها وظهورها دلالة لمن سبق قضاء الله في حقه بالإيمان، فأما من سبق قضاء الله له بالكفر لم ينتفع بهذه الدلالة البتة أصلاً، فكان المقصود من هذا التخصيص التنبيه على ما ذكرناه. والله أعلم.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٨٨
٩٢
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر هذه البراهين الخمسة من دلائل العالم الأسفل والعالم الأعلى على ثبوت الإلهية، وكمال القدرة والرحمة. ذكر بعد ذلك أن من الناس من أثبت لله شركاء، واعلم أن هذه المسألة قد تقدم ذكرها إلا أن المذكور ههنا غير ما تقدم ذكره وذلك لأن الذين أثبتوا الشريك لله فرق وطوائف.
فالطائفة الأولى : عبدة الأصنام فهم يقولون الأصنام شركاء لله في العبودية، ولكنهم معترفون بأن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخلق والإيجاد والتكوين.


الصفحة التالية
Icon