المسألة السادسة : قوله تعالى :﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ﴾ المراد منه أن يحصل للعبد كمال التوحيد وتقريره، وهو أن العبد وإن كان يعتقد أنه لا إله إلا هو، وأنه لا مدبر إلا الله تعالى، إلا أن هذا العالم عالم الأسباب.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٩٧
وسمعت الشيخ الإمام الزاهد الوالد رحمه الله يقول : لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب. وإذا كان الأمر كذلك فقد يعلق الرجل القلب بالأسباب الظاهرة، فتارة يعتمد على الأمير، وتارة يرجع في تحصيل مهماته إلى الوزير، فحينئذ لا ينال إلا الحرمان ولا يجد إلا تكثير الأحزان، والحق تعالى قال :﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ﴾ والمقصود أن يعلم الرجل أنه لا حافظ إلا الله، ولا مصلح للمهمات إلا الله، فحينئذ ينقطع طمعه عن كل ما سواه، ولا يرجع في مهم من المهمات إلا إليه.
المسألة الرابعة : أنه قال قبل هذه الآية بقليل ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ﴾ وقال ههنا ﴿خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ وهذا كالتكرار.
والجواب من وجوه : الأول : أن قوله :﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ﴾ إشارة إلى الماضي.
أما قوله :﴿خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ فهو اسم الفاعل، وهو يتناول الأوقات كلها، والثاني : وهو التحقيق أنه تعالى ذكر هناك قوله :﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ﴾ ليجعله مقدمة في بيان نفي الأولاد، وههنا ذكر قوله :﴿خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ ليجعله مقدمة في بيان أنه لا معبود إلا هو، والحاصل أن هذه المقدمة مقدمة توجب أحكاماً كثيرة ونتائج مختلفة، فهو تعالى يذكرها مرة بعد مرة، ليفرع عليها في كل موضع ما يليق بها من النتيجة.
المسألة الثامنة : لقائل أن يقول : الإله هو الذي يستحق أن يكون معبوداً، فقوله :﴿لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ﴾ معناه لا يستحق العبادة إلا هو، فما الفائدة في قوله بعد ذلك ﴿فَاعْبُدُوه ﴾ فإن هذا يوهم التكرير.
والجواب : قوله :﴿لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ﴾ أي لا يستحق العبادة إلا هو، وقوله :﴿فَاعْبُدُوه ﴾ أي لا تعبدوا غيره.
المسألة التاسعة : القوم كانوا معترفين بوجود الله تعالى كما قال :﴿وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه ﴾ (لقمان : ٢٥) وما أطلقوا لفظ الله على أحد سوى الله سبحانه، كما قال تعالى :﴿هَلْ تَعْلَمُ لَه سَمِيًّا﴾ (مريم : ٦٥) فقال :﴿فَذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ﴾ (إبراهيم : ٣٤) أي الشيء الموصوف بالصفات التي تقدم ذكرها هو الله تعالى، ثم قال بعده :﴿رَبُّكُمْ﴾ يعني الذي يربيكم ويحسن إليكم بأصناف التربية ووجوه الإحسان، وهي أقسام بلغت في الكثرة إلى حيث يعجز العقل عن ضبطها، كما قال :﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ ﴾.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٩٧
ثم قال :﴿لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ﴾ يعني أنكم لما عرفتم وجود الإله المحسن المتفضل المتكرم فاعلموا أنه لا إله سواه ولا معبود سواه.
ثم قال :﴿خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ يعني إنما صح قولنا : لا إله سواه، لأنه لا خالق للخلق سواه، ولا مدبر للعالم إلا هو. فهذا الترتيب ترتيب مناسب مفيد.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ٩٧
١٠٤
في هذه الآية مسائل :
المسألة الأولى : احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى تجوز رؤيته والمؤمنين يرونه يوم القيامة من وجوه : الأول : في تقرير هذا المطلوب أن نقول : هذه الآية تدل على أنه تعالى تجوز رؤيته.
وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة.
أما المقام الأول : فتقريره : أنه تعالى تمدح بقوله :﴿لا تُدْرِكُهُ الابْصَـارُ﴾ وذلك مما يساعد الخصم عليه، وعليه بنوا استدلالهم في إثبات مذهبهم في نفي الرؤية.
وإذا ثبت هذا فنقول : لو لم يكن تعالى جائز الرؤية لما حصل التمدح بقوله :﴿لا تُدْرِكُهُ الابْصَـارُ﴾ ألا ترى أن المعدوم لا تصح رؤيته. والعلوم والقدرة والإرادة والروائح والطعوم لا يصح رؤية شيء منها، ولا مدح لشيء منها في كونها بحيث لا تصح رؤيتها، فثبت أن قوله :﴿لا تُدْرِكُهُ الابْصَـارُ﴾ يفيد المدح، وثبت أن ذلك إنما يفيد المدح لو كان صحيح الرؤية، وهذا يدل على أن قوله تعالى :﴿لا تُدْرِكُهُ الابْصَـارُ﴾ يفيد كونه تعالى جائز الرؤية، وتمام التحقيق فيه أن الشيء إذا كان في نفسه بحيث يمتنع رؤيته، فحينئذ لا يلزم من عدم رؤيته مدح وتعظيم للشيء. أما إذا كان في نفسه جائز الرؤية، ثم إنه قدر على حجب الأبصار عن رؤيته وعن إدراكه كانت هذه القدرة الكاملة دالة على المدح والعظمة. فثبت أن هذه الآية دالة على أنه تعالى جائز الرؤية بحسب ذاته.


الصفحة التالية
Icon