فالصفة الأولى : كونها تامة وإليه الإشارة بقوله :﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ وفي تفسير هذا التمام وجوه : الأول : ما ذكرنا أنها كافية وافية بكونها معجزة دالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام، والثاني : أنها كافية في بيان ما يحتاج المكلفون إليه إلى قيام القيامة عملاً وعلماً، والثالث : أن حكم الله تعالى هو الذي حصل في الأزل، ولا يحدث بعد ذلك شيء، فذلك الذي حصل في الأزل هو التمام، والزيادة عليه ممتنعة، وهذا الوجه هو المراد من قوله صلى الله عليه وسلّم :"جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة".
الصفة الثانية : من صفات كلمة الله كونها صدقاً، والدليل عليه أن الكذب نقص والنقص على الله محال، ولا يجوز إثبات أن الكذب على الله محال بالدلائل السمعية، لأن صحة الدلائل السمعية موقوفة على أن الكذب على الله محال، فلو أثبتنا امتناع الكذب على الله بالدلائل السمعية لزم الدور وهو باطل. واعلم أن هذا الكلام كما يدل على أن الخلف في وعد الله تعالى محال. فهو أيضاً يدل على أن الخلف في وعيده محال بخلاف ما قاله الواحدي في تفسير قوله تعالى :﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُه جَهَنَّمُ خَـالِدًا فِيهَا﴾ إن الخلق في وعيد الله جائز، وذلك لأن وعد الله ووعيده كلمة الله، فلما دلت هذه الآية على أن كلمة الله يجب كونها موصوفة بالصدق على أن الخلف كما أنه ممتنع في الوعد فكذلك ممتنع في الوعيد.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٢٦
الصفة الثالثة : من صفات كلمات الله كونها عدلاً وفيه وجهان : الأول : أن كل ما حصل في القرآن نوعان، الخبر والتكليف. أما الخبر فالمراد كل ما أخبر الله عن وجوده أو عن عدمه ويدخل فيه الخبر عن وجود ذات الله تعالى وعن حصول صفاته أعني كونه تعالى عالماً قادراً سميعاً بصيراً، ويدخل فيه الأخبار عن صفات التقديس والتنزيه كقوله :﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ (الإخلاص : ٣) وكقوله :﴿لا تَأْخُذُه سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ﴾ (البقرة : ٢٥٥) ويدخل فيه الخبر عن أقسام أفعال الله وكيفية تدبيره لملكوت السموات والأرض وعالمي الأرواح والأجسام/ ويدخل فيه كل أمر عن أحكام الله تعالى في الوعد والوعيد والثواب والعقاب، ويدخل فيه الخبر عن أحوال المتقدمين، والخبر عن الغيوب المستقبلة، فكل هذه الأقسام داخلة تحت الخبر، وأما التكليف فيدخل فيه كل أمر ونهي توجه منه سبحانه على عبده سواء كان ذلك العبد ملكاً أو بشر أو جنياً أو شيطاناً وسواء كان ذلك في شرعنا أو في شرائع الأنبياء عليهم السلام المتقدمين، أو في شرائع الملائكة المقربين الذين هم سكان السموات والجنة والنار والعرش وما وراءه مما لا يعلم أحوالهم إلا الله تعالى.
وإذا عرفت انحصار مباحث القرآن في هذين القسمين فنقول : قال تعالى :﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا﴾ إن كان من باب الخبر ﴿وَعَدْلا ﴾ إن كان من باب التكاليف، وهذا ضبط في غاية الحسن.
والقول الثاني : في تفسير قوله :﴿وَعَدْلا ﴾ أن كل ما أخبر الله تعالى عنه من وعد ووعيد وثواب وعقاب فهو صدق لأنه لا بد وأن يكون واقعاً، وهو بعد وقوعه عدل لأن أفعاله منزهة عن أن تكون موصوفة بصفة الظلمية.
الصفة الرابعة : من صفات كلمة الله قوله :﴿لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَـاتِه ﴾ وفيه وجوه : الأول : أنا بينا أن المراد من قوله :﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ أنها تامة في كونها معجزة دالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلّم.
ثم قال :﴿لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَـاتِه ﴾ والمعنى أن هؤلاء الكفار يلقون الشبهات في كونها دالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام إلا أن تلك الشبهات لا تأثير لها في هذه الدلائل التي لا تقبل التبديل البتة لأن تلك الدلالة ظاهرة باقية جلية قوية لا تزول بسبب ترهات الكفار وشبهات أولئك الجهال.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٢٦
والوجه الثاني : أن يكون المراد أنها تبقى مصونة عن التحريف والتغيير كما قال تعالى :﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَه لَحَـافِظُونَ﴾ (الحجر : ٩).
والوجه الثالث : أن يكون المراد أنها مصونة عن التناقض كما قال :﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَـافًا كَثِيرًا﴾ (النساء : ٨٢).
والوجه الرابع : أن يكون المراد أن أحكام الله تعالى لا تقبل التبديل والزوال لأنها أزلية والأزلي لا يزول.
واعلم أن هذا الوجه أحد الأصول القوية في إثبات الجبر، لأنه تعالى لما حكم على زيد بالسعادة وعلى عمرو بالشقاوة، ثم قال :﴿لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَـاتِه وَلَن تَجِدَ مِن دُونِه مُلْتَحَدًا﴾ يلزم امتناع أن ينقلب السعيد شقياً وأن ينقلب الشقي سعيداً، فالسعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٢٦
١٢٨


الصفحة التالية
Icon