جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٤٥
المقام الثاني : مقام التأويل المطابق لمذهبنا وقولنا.
أما المقام الأول : فتقريره من وجوه :
الوجه الأول : أن هذه الآية ليس فيها أنه تعالى أضل قوماً أو يضلهم، لأنه ليس فيها أكثر من أنه متى أراد أن يهدي إنساناً فعل به كيت وكيت، وإذا أراد إضلاله فعل به كيت وكيت، وليس في الآية أنه تعالى يريد ذلك أو لا يريده. والدليل عليه أنه تعالى قال :﴿لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا اتَّخَذْنَـاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَـاعِلِينَ﴾ (الأنبياء : ١٧) فبين تعالى أنه يفعل اللهو لو أراده، ولا خلاف أنه تعالى لا يريد ذلك ولا يفعله.
الوجه الثاني : أنه تعالى لم يقل : ومن يرد أن يضله عن الإسلام، بل قال :﴿وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّه ﴾ فلم قلتم أن المراد ؟
ومن يرد أن يضله عن الإيمان.
والوجه الثالث : أنه تعالى بين في آخر الآية أنه إنما يفعل هذا الفعل بهذا الكافر جزاء على كفره، وأنه ليس ذلك على سبيل الابتداء، فقال :﴿كَذَالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنعام : ١٢٥).
الوجه الرابع : أن قوله :﴿وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّه يَجْعَلْ صَدْرَه ضَيِّقًا حَرَجًا﴾ فهذا يشعر بأن جعل الصدر ضيقاً حرجاً يتقدم حصوله على حصول الضلالة/ وأن لحصول ذلك المتقدم أثراً في حصول / الضلال وذلك باطل بالإجماع. أما عندنا : فلا نقول به. وأما عندكم : فلأن المقتضى لحصول الجهل والضلال هو أن الله تعالى يخلقه فيه لقدرته. فثبت بهذه الوجوه الأربعة أن هذه الآية لا تدل على قولكم.
أما المقام الثاني : وهو أن تفسير هذه الآية على وجه يليق بقولنا، فتقريره من وجوه : الأول : وهو الذي اختاره الجبائي، ونصره القاضي، فنقول : تقدير الآية : ومن يرد الله أن يهديه يوم القيامة إلى طريق الجنة، يشرح صدره للإسلام حتى يثبت عليه، ولا يزول عنه، وتفسير هذا الشرح هو أنه تعالى يفعل به ألطافاً تدعوه إلى البقاء على الإيمان والثبات عليه، وفي هذا النوع ألطاف لا يمكن فعلها بالمؤمن، إلا بعد أن يصير مؤمناً، وهي بعد أن يصير الرجل مؤمناً يدعوه إلى البقاء على الإيمان والثبات عليه وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿وَمَن يُؤْمِنا بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَه ﴾ (التغابن : ١١) وبقوله :﴿وَالَّذِينَ جَـاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ (العنكبوت : ٦٩) فإذا آمن عبد وأراد الله ثباته فحينئذ يشرح صدره، أي يفعل به الألطاف التي تقتضي ثباته على الإيمان ودوامه عليه. فأما إذا كفر وعاند، وأراد الله تعالى أن يضله عن طريق الجنة، فعند ذلك يلقي في صدره الضيق والحرج. ثم سأل الجبائي نفسه وقال : كيف يصح ذلك ونجد الكفار طيبي النفوس لا غم لهم البتة ولا حزن ؟
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٤٥
وأجاب عنه : بأنه تعالى لم يخبر بأنه يفعل بهم ذلك في كل وقت فلا يمتنع كونهم في بعض الأوقات طيبي القلوب. وسأل القاضي نفسه على هذا الجواب سؤالاً آخر فقال : فيجب أن تقطعوا في كل كافر بأنه يجد من نفسه ذلك الضيق والحرج في بعض الأوقات.
وأجاب عنه بأن قال : وكذلك نقول ودفع ذلك لا يمكن خصوصاً عند ورود أدلة الله تعالى وعند ظهور نصرة الله للمؤمنين، وعند ظهور الذلة والصغار فيهم، هذا غاية تقرير هذا الجواب.
والوجه الثاني : في التأويل قالوا لم لا يجوز أن يقال : المراد فمن يرد الله أن يهديه إلى الجنة يشرح صدره للإسلام ؟
أي يشرح صدره للإسلام في ذلك الوقت الذي يهديه فيه إلى الجنة، لأنه لما رأى أن بسبب الإيمان وجد هذه الدرجة العالية، والمرتبة الشريفة يزداد رغبة في الإيمان، ويحصل في قلبه مزيد انشراح وميل إليه، ومن يرد أن يضله يوم القيامة عن طريق الجنة، ففي ذلك الوقت يضيق صدره، ويحرج صدره بسبب الحزن الشديد الذي ناله عند الحرمان من الجنة والدخول في النار. قالوا : فهذا وجه قريب واللفظ محتمل له، فوجب حمل اللفظ عليه.
والوجه الثالث : في التأويل أن يقال : حصل في الكلام تقديم وتأخير، فيكون المعنى من شرح صدر نفسه بالإيمان فقد أراد الله أن يهديه أي يخصه بالألطاف الداعية إلى الثبات على الإيمان، أو يهديه بمعنى أنه يهديه إلى طريق الجنة، ومن جعل صدره ضيقاً حرجاً عن الإيمان، / فقد أراد الله أن يضله عن طريق الجنة، أو يضله بمعنى أنه يحرمه عن الألطاف الداعية إلى الثبات على الإيمان، فهذا هو مجموع كلامهم في هذا الباب.
والجواب عما قالوه أولاً : من أن الله تعالى لم يقل في هذه الآية أنه يضله، بل المذكور فيه أنه لو أراد أن يضله لفعل كذا وكذا.
فنقول : قوله تعالى في آخر الآية :﴿كَذَالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ تصريح بأنه يفعل بهم ذلك الإضلال لأن حرف "الكاف" في قوله :﴿كَذَالِكَ﴾ يفيد التشبيه، والتقدير : وكما جعلنا ذلك الضيق والحرج في صدره، فكذلك نجعل الرجس على قلوب الذين لا يؤمنون.


الصفحة التالية
Icon