والوجه الثالث : في تقرير هذه الخصومة ما حكى أن الشيخ أبا الحسن الأشعري لما فارق مجلس أستاذه أبي علي الجبائي وترك مذهبه وكثر اعتراضه على أقاويله عظمت الوحشة بينهما فاتفق أن يوماً من الأيام عقد الجبائي مجلس التذكير وحضر عنده عالم من الناس، وذهب الشيخ أبو الحسن إلى ذلك المجلس، وجلس في بعض الجوانب مختفياً عن الجبائي، وقال لبعض من حضر هناك من العجائز إني أعلمك مسألة فاذكريها لهذا الشيخ قولي له كان لي ثلاثة من البنين واحد كان في غاية الدين والزهد، والثاني كان في غاية الكفر والفسق، والثالث كان صبياً لم يبلغ، فماتوا على هذه الصفات فأخبرني أيها الشيخ عن أحوالهم. فقال الجبائي : أما الزاهد، ففي درجات الجنة، وأما الكافر، ففي دركات النار، وأما الصبي، فمن أهل السلامة. قال قولي له : لو أن الصبي أراد أن يذهب إلى تلك الدرجات العالية التي حصل فيها أخوه الزاهد هل يمكن منه. فقال الجبائي : لا لأن الله يقول له إنما وصل إلى تلك الدرجات العالية بسبب أنه أتعب نفسه في العلم والعمل. وأنت فليس معك ذاك فقال أبو الحسن : قولي له لو أن الصبي حينئذ يقول : يا رب العالمين ليس الذنب لي، لأنك أمتني قبل البلوغ ولو أمهلتني فربما زدت على أخي الزاهد في الزهد والدين. فقال الجبائي : يقول الله له علمت أنك لو عشت لطغيت وكفرت وكنت تستوحب النار، فقبل أن تصل إلى تلك الحالة راعيت مصلحتك وأمتك حتى تنجو من العقاب، فقال أبو الحسن : قولي له لو أن الأخ الكافر الفاسق رفع رأسه من الدرك الأسفل من النار، فقال : يا رب العالمين، ويا أحكم الحاكمين، ويا أرحم الراحمين، كما علمت من ذلك الأخ الصغير أنه لو بلغ كفر علمت مني ذلك، فلم راعيت مصلحته وما راعيت مصلحتي ؟
قال الراوي : فلما وصل الكلام إلى هذا الموضع انقطع الجبائي. فلما نظر رأى أبا الحسن، فعلم أن هذه المسألة منه، لا من العجوز، ثم إن أبا الحسين البصري جاء بعد أربعة أدوار أو أكثر من بعد الجبائي فأراد أن يجيب عن هذا السؤال، فقال : نحن لا نرضى في حق هؤلاء الأخوة الثلاثة بهذا الجواب الذي ذكرتم، بل لنا ههنا جوابان آخران سوى ما ذكرتم، ثم قال : وهو مبني على مسألة اختلف شيوخنا فيها/ وهي أنه هل يجب على الله أن يكلف العبد أم لا ؟
فقال البصريون : التكليف محض التفضل والإحسان، وهو غير واجب على الله تعالى. وقال البغداديون : إنه واجب / على الله تعالى. قال : فإن فرعنا على قول البصريين، فلله تعالى أن يقول لذلك الصبي إني طولت عمر الأخ الزاهد، وكلفته على سبيل التفضل ولم يلزم من كوني متفضلاً على أخيك الزاهد بهذا الفضل أن أكون متفضلاً عليك بمثله. وأما إن فرعنا على قول البغداديين. فالجواب أن يقال : إن إطالة عمر أخيك وتوجيه التكليف عليه كان إحساناً في حقه، ولم يلزم منه عود مفسدة إلى الغير فلا جرم فعلته وأما إطالة عمرك وتوجيه التكليف عليك كان يلزم منه عود مفسدة إلى غيرك، فلهذا السبب ما فعلت ذلك في حقك فظهر الفرق. هذا تلخيص كلام أبي الحسين البصري سعياً منه في تخليص شيخه المتقدم عن سؤال الأشعري، بل سعياً منه في تخليص إلهه عن سؤال العبد، وأقول قبل الخوض في الجواب عن كلام أبي الحسين : صحة هذه المناظرة الدقيقة بين العبد وبين الله، إنما لزمت على قول المعتزلة. وأما على قول أصحابنا رحمهم الله فلا مناظرة البتة بين العبد وبين الرب، وليس للعبد أن يقول لربه، لم فعلت كذا ؟
أو ما فعلت كذا. فثبت أن خصماء الله هم المعتزلة، لا أهل السنة، وذلك يقوي غرضنا ويحصل مقصودنا، ثم نقول :
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٤٥
أما الجواب الأول : وهو أن إطالة العمر وتوجيه التكليف تفضل، فيجوز أن يخص به بعضاً دون بعض. فنقول : هذا الكلام مدفوع، لأنه تعالى لما أوصل التفضل إلى أحدهما، فالامتناع من إيصاله إلى الثاني قبيح من الله تعالى، لأن الإيصال إلى هذا الثاني، ليس فعلاً شاقاً على الله تعالى، ولا يوجب دخول نقصان في ملكه بوجه من الوجوه، وهذا الثاني يحتاج إلى ذلك التفضل ومثل هذا الامتناع قبيح في الشاهد. ألا ترى أن من منع غيره من النظر في مرآته المنصوبة على الجدار لعامة الناس قبح ذلك منه، لأنه منع من النفع من غير اندفاع ضرر إليه، ولا وصول نفع إليه فإن كان حكم العقل بالتحسين والتقبيح مقبولاً، فليكن مقبولاً ههنا، وإن لم يكن مقبولاً لم يكن مقبولاً البتة في شيء من المواضع، وتبطل كلية مذهبكم. فثبت أن هذا الجواب فاسد.