واعلم أن أصحابنا يتمسكون بقوله تعالى :﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَـاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـاذَا ﴾ على أنه لا يحصل الوجوب البتة قبل ورود الشرع، فإنه لو حصل الوجوب واستحقاق العقاب قبل ورود الشرع لم يكن لهذا التعليل والذكر فائدة.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٥٢
١٥٣
اعلم أنه تعالى لما بين أنه ما عذب الكفار إلا بعد أن بعث إليهم الأنبياء والرسل بين بهذه الآية أن هذا هو العدل والحق والواجب، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : قوله :﴿ذَالِكَ﴾ إشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم سوء العاقبة وهو خبر مبتدأ محذوف، والتقدير : الأمر ذلك.
وأما قوله :﴿أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ﴾ ففيه وجوه : أحدها : أنه تعليل، والمعنى :/ الأمر ما قصصنا عليك لانتفاء كون ربك مهلك القرى بظلم، وكلمة "أن" ههنا هي التي تنصب الأفعال، وثانيها : يجوز أن تكون مخففة من الثقيلة، والمعنى لأنه لم يكن ربك مهلك القرى بظلم والضمير في قوله لأنه ضمير الشأن والحديث والتقدير، لأن الشأن والحديث لم يكن ربك مهلك القرى بظلم. وثالثها : أن يجعل قوله :﴿أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ﴾ بدلاً من قوله :﴿ذَالِكَ﴾ كقوله :﴿وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَالِكَ الامْرَ أَنَّ دَابِرَ هَـا ؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ﴾ (الحجر : ٦٦).
وأما قوله :﴿بِظُلْمٍ﴾ ففيه وجهان : الأول : أن يكون المعنى، وما كان ربك مهلك القرى بسبب ظلم أقدموا عليه. والثاني : أن يكون المراد. وما كان ربك مهلك القرى ظلماً عليهم، وهو كقوله :﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ (هود : ١١٧) في سورة هود. فعلى الوجه الأول يكون الظلم فعلاً للكفار، وعلى الثاني يكون عائداً إلى فعل الله تعالى، والوجه الأول أليق بقولنا، لأن القول الثاني يوهم أنه تعالى لو أهلكهم قبل بعثة الرسل كان ظالماً، وليس الأمر عندنا كذلك، لأنه تعالى يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، ولا اعتراض عليه لأحد في شيء من أفعاله. وأما المعتزلة : فهذا القول الثاني مطابق لمذهبهم موافق لمعتقدهم. وأما أصحابنا فمن فسر الآية بهذا الوجه الثاني. قال : إنه تعالى لو فعل ذلك لم يكن ظالماً لكنه يكون في صورة الظالم فيما بينا، فوصف بكونه ظالماً مجازاً، وتمام الكلام في هذين القولين مذكور في سورة هود عند قوله :﴿بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٥٣
وأما قوله :﴿وَأَهْلُهَا غَـافِلُونَ﴾ فليس المراد من هذه الغفلة أن يتغافل المرء عما يوعظ به، بل معناها أن لا يبين الله لهم كيفية الحال، ولا أن يزيل عذرهم وعلتهم.
واعلم أن أصحابنا يتمسكون بهذه الآية في إثبات أنه لا يحصل الوجوب قبل الشرع، وأن العقل المحض لا يدل على الوجوب البتة. قالوا : لأنها تدل على أنه تعالى لا يعذب أحداً على أمر من الأمور إلا بعد البعثة للرسول. والمعتزلة قالوا : إنها تدل من وجه آخر على أن الوجوب قد يتقرر قبل مجيء الشرع، لأنه تعالى قال :﴿أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَـافِلُونَ﴾ فهذا الظلم إما أن يكون عائداً إلى العبد أو إلى الله تعالى، فإن كان الأول، فهذا يدل على إمكان أن يصدر منه الظلم قبل البعثة، وإنما يكون الفعل ظلماً قبل البعثة، لو كان قبيحاً وذنباً قبل بعثة الرسل، وذلك هو المطلوب، وإن كان الثاني فذلك يقتضي أن يكون هذا الفعل قبيحاً من الله تعالى، وذلك لا يتم إلا مع الاعتراف بتحسين العقل وتقبيحه.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٥٣
١٥٣
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر وحده ﴿تَعْمَلُونَ﴾ بالتاء على الخطاب، والباقون بالياء على الغيبة.
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل الثواب والدرجات، وأحوال أهل العقاب والدركات ذكر كلاماً كلياً، فقال :﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَـاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ﴾ وفي الآية قولان :
القول الأول : أن قوله :﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَـاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ﴾ عام في المطيع والعاصي، والتقدير :
ولكل عامل عمل فله في عمله درجات، فتارة يكون في درجة ناقصة، وتارة يترقى منها إلى درجة كاملة، وأنه تعالى عالم بها على التفصيل التام، فرتب على كل درجة من تلك الدرجات ما يليق به من الجزاء، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
والقول الثاني : أن قوله :﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَـاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ﴾ مختص بأهل الطاعة، لأن لفظ الدرجة لا يليق إلا بهم. وقوله :﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ مختص بأهل الكفر والمعصية والصواب هو الأول.