ثم قال تعالى :﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنا بَعْدِكُم مَّا يَشَآءُ﴾ والمعنى أنه تعالى لما وصف نفسه بأنه ذو الرحمة فقد كان يجوز أن يظن ظان أنه وإن كان ذا الرحمة إلا أن لرحمته معدناً مخصوصاً وموضعاً معيناً فبين تعالى أنه قادر على وضع الرحمة في هذا الخلق، وقادر على أن يخلق قوماً آخرين ويضع رحمته فيهم وعلى هذا الوجه يكون الاستغناء عن العالمين أكمل وأتم والمقصود التنبيه على أن تخصيص الرحمة بهؤلاء ليس لأجل أنه لا يمكنه إظهار رحمته إلا بخلق هؤلاء. أما قوله :﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ﴾ فالأقرب أن المراد به الإهلاك ويحتمل الإماتة أيضاً ويحتمل أن لا يبلغهم مبلغ التكليف / وأما قوله :﴿وَيَسْتَخْلِفْ مِنا بَعْدِكُم﴾ يعني من بعد إذهابكم. لأن الاستخلاف لا يكون إلا على طريق البدل من فائت. وأما قوله :﴿مَا يَشَآءُ﴾ فالمراد منه خلق ثالث ورابع، واختلفوا فقال بعضهم : خلقاً آخر من أمثال الجن والإنس يكونون أطوع، وقال أبو مسلم : بل المراد أنه قادر على أن يخلق خلقاً ثالثاً مخالفاً للجن والإنس قال القاضي : وهذا الوجه أقرب لأن القوم يعلمون بالعادة أنه تعالى قادر على إنشاء أمثال هذا الخلق فمتى حمل على خلق ثالث ورابع يكون أقوى في دلالة القدرة، فكأنه تعالى نبه على أن قدرته ليست مقصورة على جنس دون جنس من الخلق الذين يصلحون لرحمته العظيمة التي هي النواب، فبين بهذا الطريق أنه تعالى لرحمته لهؤلاء القوم الحاضرين أبقاهم وأمهلهم ولو شاء لأماتهم وأفناهم وأبدل بهم سواهم. ثم بين تعالى علة قدرته على ذلك فقال :﴿كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ﴾ لأن المرء العاقل إذا تفكر علم أنه تعالى خلق الإنسان من نطفة ليس فيها من صورته قليل ولا كثير، فوجب أن يكون ذلك بمحض القدرة والحكمة، وإذا كان الأمر كذلك فكما قدر تعالى على تصوير هذه الأجسام بهذه الصورة الخاصة، فكذلك يقدر على تصويرهم بصورة مخالفة لها. وقرأ القراء كلهم ﴿ذُرِّيَّةِ﴾ بضم الذال وقرأ زيد بن ثابت بكسر الذال. قال الكسائي : هما لغتان.
ثم قال تعالى :﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ﴾ قال الحسن : أي من مجيء الساعة، لأنهم كانوا ينكرون القيامة، وأقول فيه احتمال آخر : وهو أن الوعد مخصوص بالأخبار عن الثواب، وأما الوعيد فهو مخصوص بالأخبار عن العقاب فقوله :﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ﴾ يعني كل ما تعلق بالوعد بالثواب فهو آت لا محالة، فتخصيص الوعد بهذا الجزم يدل على أن جانب الوعيد ليس كذلك ويقوي هذا الوجه آخر الآية، وهو أنه قال :﴿وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ﴾ يعني لا تخرجون عن قدرتنا وحكمنا، فالحاصل أنه لما ذكر الوعد جزم بكونه آتياً، ولما ذكر الوعيد، ما زاد على قوله :﴿وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ﴾ وذلك يدل على أن جانب الرحمة والإحسان غالب.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٥٦
١٥٧
اعلم أنه لما بين بقوله :﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ﴾ أمر رسوله من بعده أن يهدد من ينكر البعث عن الكفار، فقال ﴿قُلْ يَـاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾ وفيه مباحث :
البحث الأول : قرأ أبو بكر عن عاصم بالألف، على الجمع في كل القرآن، والباقون ﴿عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾ قال الواحدي : والوجه الإفراد، لأنه مصدر، والمصادر في أكثر الأمر مفردة، وقد تجمع أيضاً في بعض الأحوال، إلا أن الغالب هو الأول.
البحث الثاني : قال صاحب "الكشاف" : المكانة تكون مصدراً، يقال : مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن، وبمعنى المكان، يقال : مكان ومكانة، ومقام ومقامة، فقوله :﴿اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾ يحتمل اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، ويحتمل أيضاً أن يراد اعملوا على حالتكم التي أنتم عليها يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حالة : على مكانتك يا فلان، أي اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه ﴿إِنِّى عَـامِلٌ ﴾ أي أنا عامل على مكانتي، التي عليها، والمعنى : اثبتوا على كفركم وعداوتكم، فأني ثابت على الإسلام، وعلى مضارتكم ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ أيناله العاقبة المحمودة، وطريقة هذا الأمر طريقة قوله :﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ﴾ وهي تفويض الأمر إليهم على سبيل التهديد.
البحث الثالث : من في قوله :﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَه عَـاقِبَةُ الدَّارِ ﴾ ذكر الفراء في موضعه من الإعراب وجهين : الأول : أنه نصب لوقوع العلم عليه. الثاني : أن يكون رفعاً على معنى : تعلمون أينا تكون له عاقبة الدار، كقوله تعالى :﴿لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ﴾ (الكهف : ١٢).
البحث الرابع : قوله :﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَه عَـاقِبَةُ الدَّارِ ﴾ يوهم أن الكافر ليست له عاقبة الدار، وذلك مشكل.
قلنا : العاقبة، تكون على الكافر ولا تكون له، كما يقال : له الكثرة ولهم الظفر، وفي ضده يقال : عليكم الكثرة والظفر.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٥٧


الصفحة التالية
Icon