المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى جعل مدار هذا الكتاب الشريف على تقرير التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات القضاء والقدر، وأنه تعالى بالغ في تقرير هذه الأصول، وانتهى الكلام إلى شرح أحوال السعداء والأشقياء، ثم انتقل منه إلى تهجين طريقة من أنكر البعث والقيامة، ثم أتبعه بحكاية أقوالهم الركيكة، وكلماتهم الفاسدة في مسائل أربعة. والمقصود التنبيه على ضعف عقولهم، وقلة محصولهم، وتنفير الناس عن الالتفات إلى قولهم، والاغترار بشبهاتهم. فلما تمم هذه الأشياء عاد بعدها إلى ما هو المقصود الأصلي، وهو إقامة الدلائل على تقرير التوحيد فقال :﴿وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّـاتٍ مَّعْرُوشَـاتٍ﴾.
واعلم أنه قد سبق ذكر هذا الدليل في هذه السورة، وهو قوله :﴿وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِه نَبَاتَ كُلِّ شَىْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ﴾ (الأنعام : ٩٩) فالآية المتقدمة ذكر تعالى فيها خمسة أنواع، وهي : الزرع والنخل، وجنات من أعناب والزيتون والرمان، وفي هذه الآية التي نحن في تفسيرها ذكر هذه الخمسة بأعيانها لكن على خلاف ذلك الترتيب لأنه ذكر العنب، ثم النخل، ثم الزرع، ثم الزيتون ثم الرمان. وذكر في الآية المتقدمة ﴿مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَـابِهٍ ﴾ وفي هذه الآية ﴿مُتَشَـابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَـابِهٍ ﴾ ثم ذكر في الآية المتقدمة ﴿انظُرُوا إِلَى ثَمَرِه إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِه ﴾ فأمر تعالى هناك بالنظر في أحوالها والاستدلال بها على وجود الصانع الحكيم، وذكر في هذه الآية ﴿كُلُوا مِن ثَمَرِه إِذَآ أَثْمَرَ وَءَاتُوا حَقَّه يَوْمَ حَصَادِه ﴾ فأذن في الانتفاع بها، وأمر بصرف جزء منها إلى الفقراء، فالذي حصل به الامتياز بين الآيتين أن هناك أمر بالاستدلال بها على الصانع الحكيم. وههنا أذن في الانتفاع بها، وذلك تنبيه على أن الأمر بالاستدلال بها على الصانع الحكيم مقدم على الإذن في الانتفاع بها لأن الحاصل من الاستدلال بها سعادة روحانية أبدية. والحاصل من الانتفاع بهذه سعادة جسمانية سريعة الانقضاء، والأول أولى بالتقديم، فلهذا السبب قدم الله تعالى الأمر بالاستدلال بها على الإذن بالانتفاع بها.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٦٥
المسألة الثانية : قوله :﴿وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ﴾ أي خلق، يقال : نشأ الشيء ينشأ نشأة ونشاءة إذا ظهر وارتفع والله ينشئه إنشاء أي يظهره ويرفعه وقوله :﴿جَنَّـاتٍ مَّعْرُوشَـاتٍ﴾ يقال عرشت الكرم أعرشه عرشاً وعرشته تعريشاً، إذا عطفت العيدان التي يرسل عليها قضبان الكرم، والواحد عرش، والجمع عروش، ويقال : عريش وجمعه عرش، واعترش العنب العريش اعتراشاً إذا علاه.
إذا عرفت هذا فنقول : في قوله :﴿مَّعْرُوشَـاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَـاتٍ﴾ أقوال : الأول : أن المعروشات وغير المعروشات كلاهما الكرم، فإن بعض الأعناب يعرش وبعضها لا يعرش، بل يبقى على وجه الأرض منبسطاً. والثاني : المعروشات العنب الذي يجعل لها عروش، وغير المعروشات كل ما ينبت منبسطاً على وجه الأرض مثل القرع والبطيخ. والثالث : المعروشات ما يحتاج إلى أن يتخذ له عريش يحمل عليه فيمسكه/ وهو الكرم وما يجري مجراه، وغير المعروش هو القائم من الشجر المستغني باستوائه وذهابه علواً لقوة ساقه عن التعريش. والرابع : المعروشات ما يحصل في البساتين / والعمرانات مما يغرسه الناس واهتموا به فعرشوه ﴿وَغَيْرَ مَعْرُوشَـاتٍ﴾ مما أنبته الله تعالى وحشياً في البراري والجبال فهو غير معروش وقوله :﴿وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ﴾ فسر ابن عباس ﴿الزَّرْعَ﴾ ههنا بجميع الحبوب التي يقتات بها ﴿مُخْتَلِفًا أُكُلُه ﴾ أي لكل شيء منها طعم غير طعم الآخر كل ما أكل، وههنا المراد ثمر النخل والزرع، ومضى القول في ﴿فِى الاكُلِ ﴾ عند قوله :﴿فَاَاتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ﴾ (البقرة : ٢٦٥) وقوله :﴿مُخْتَلِفًا﴾ نصب على الحال. أي أنشأه في حال اختلاف أكله، وهو قد أنشأه من قبل ظهور أكله وأكل ثمره.
الجواب : أنه تعالى أنشأها حال اختلاف ثمرها وصدق هذا لا ينافي صدق أنه تعالى أنشأها قبل ذلك أيضاً. وأيضاً نصب على الحال مع أنه يؤكل بعد ذلك بزمان، لأن اختلاف أكله مقدر كما تقول : مررت برجل معه صقر صائداً به غداً، أي مقدراً للصيد به غداً. وقرأ ابن كثير ونافع ﴿أَكَلَهُ﴾ بتخفيف الكاف والباقون ﴿أَكَلَهُ﴾ في كل القرآن. وأما توحيد الضمير في قوله :﴿مُخْتَلِفًا أُكُلُه ﴾ فالسبب فيه : أنه اكتفى بإعادة الذكر على أحدهما من إعادته عليهما جميعاً كقوله تعالى :﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَـارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا﴾ (الجمعة : ١١) والمعنى : إليهما وقوله :﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُه ا أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ (التوبة : ٦٢).
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٦٥


الصفحة التالية
Icon