وجوابه : أنه ليس كل ما كان مذموماً منا كان مذموماً من الله تعالى. ألا ترى أن الجمع بين العبيد والإماء وتسليط الشهوة عليهم وتمكينهم من أسباب الفجور مذموم منا وغير مذموم من الله تعالى فكذا ههنا.
ثم قال :﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ﴾ قال القاضي : لا يهديهم إلا ثوابه وإلى زيادات الهدى التي يختص المهتدي بها. وقال أصحابنا : المراد منه الإخبار بأنه تعالى لا يهدي أولئك المشركين، أي لا ينقلهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، والكلام في ترجيح أحذ القولين على الآخر معلوم.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٦٧
١٧٢
اعلم أنه تعالى لما بين فساد طريقة أهل الجاهلية فيما يحل ويحرم من المطعومات أتبعه بالبيان الصحيح في هذا الباب، فقال :﴿قُل لا أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ﴾ وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير وحمزة ﴿إِلا أَن تَكُونَ﴾ بالتار ﴿مَيْتَةً﴾ بالنصب على تقدير : إلا أن تكون العين أو النفس أو الجثة ميتة. وقرأ ابن عامر إلا أن تكون بالتاء ﴿مَيْتَةً﴾ بالرفع على معنى إلا أن تقع ميتة أو تحدث ميتة والباقون ﴿إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً﴾ أي إلا أن يكون المأكول ميتة، أو إلا أن يكون الموجود ميتة.
المسألة الثانية : لما بين الله تعالى أن التحريم والتحليل لا يثبت إلا بالوحي. قال :﴿قُل لا أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُه ﴾ أي على آكل يأكله، وذكر هذا ليظهر أن المراد منه هو بيان ما يحل ويحرم من المأكولات. ثم ذكر أموراً أربعة. أولها : الميتة، وثانيها : الدم المسفوح، وثالثها : لحم الخنزير فإنه رجس، ورابعها : الفسق وهو الذي أهل به لغير الله، فقوله تعالى :﴿قُل لا أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا﴾ إلا هذه الأربعة مبالغة في بيان أنه لا يحرم إلا هذه الأربعة وذلك لأنه لما ثبت أنه لا طريق إلى معرفة المحرمات والمحللات إلا بالوحي، وثبت أنه لا وحي من الله تعالى إلا إلى محمد عليه الصلاة والسلام، وثبت أنه تعالى يأمره أن يقول : إني لا أجد فيما أوحي إلي محرماً من المحرمات إلا هذه الأربعة كان هذا مبالغة في بيان أنه لا يحرم إلا هذه الأربعة.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٧٢
واعلم أن هذه السورة مكية، فبين تعالى في هذه السورة المكية أنه لا محرم إلا هذه الأربعة ثم أكد ذلك بأن قال في سورة النحل :﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِه ا فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ﴾ (النحل : ١١٥) وكلمة ﴿إِنَّمَآ﴾ تفيد الحصر فقد حصلت لنا آيتان مكيتان يدلان على حصر المحرمات في هذه الأربعة، فبين في سورة البقرة وهي مدنية أيضاً أنه لا محرم إلا هذه الأربعة فقال :﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِه لِغَيْرِ اللَّه ﴾ وكلمة ﴿إِنَّمَآ﴾ تفيد الحصر فصارت هذه الآية المدنية مطابقة لتلك الآية المكية لأن كلمة ﴿إِنَّمَآ﴾ تفيد الحصر، فكلمة ﴿إِنَّمَآ﴾ في الآية المدنية مطابقة لقوله :﴿قُل لا أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا﴾ إلا كذا وكذا في الآية المكية، ثم ذكر تعالى في سورة المائدة قوله تعالى :﴿أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الانْعَـامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ (المائدة : ١) وأجمع المفسرون على أن المراد بقوله :﴿إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ هو ما ذكره بعد هذه الآية بقليل، وهو قوله :﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِه وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ وكل هذه الأشياء أقسام الميتة وأنه تعالى إنما أعادها بالذكر لأنهم كانوا يحكمون عليها بالتحليل، فثبت أن الشريعة من أولها إلى آخرها / كانت مستقرة على هذا الحكم وعلى هذا الحصر.
فإن قال قائل : فيلزمكم في التزام هذا الحصر تحليل النجاسات والمستقذرات، ويلزم عليه أيضاً تحليل الخمر، وأيضا فيلزمكم تحليل المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة مع أن الله تعالى حكم بتحريمها.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٧٢


الصفحة التالية
Icon