قلنا : هذان قد يرجعان إلى معنى الشك، لأن ما يخاف من ريب المنون محتمل، فهو كالمشكوك / فيه، وكذلك ما اختلج بالقلب فهو غير متيقن، فقوله تعالى :﴿لا رَيْبَا فِيه ﴾ المراد منه نفي كونه مظنة للريب بوجه من الوجوه، والمقصود أنه لا شبهة في صحته، ولا في كونه من عند الله، ولا في كونه معجزاً. ولو قلت : المراد لا ريب في كونه معجزاً على الخصوص كان أقرب لتأكيد هذا التأويل بقوله :﴿وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا﴾ (البقرة : ٢٣) وها هنا سؤالات : السؤال الأول : طعن بعض الملحدة فيه فقال : إن عني أنه لا شك فيه عندنا فنحن قد نشك فيه، وإن عني أنه لا شك فيه عنده فلا فائدة فيه. الجواب : المراد أنه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب فيه، والأمر كذلك ؛ لأن العرب مع بلوغهم في الفصاحة إلى النهاية عجزوا عن معارضة أقصر سورة من القرآن، وذلك يشهد بأنه بلغت هذه الحجة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه. السؤال الثاني : لم قال ههنا :﴿لا رَيْبَا فِيه ﴾ وفي موضع آخر ﴿لا فِيهَا غَوْلٌ﴾ (الصافات : ٤٧) ؟
الجواب : لأنهم يقدمون الأهم فالأهم، وههنا الأهم نفي الريب بالكلية عن الكتاب، ولو قلت : لا فيه ريب لأوهم أن هناك كتاباً آخر حصل الريب فيه لا ها هنا، كما قصد في قوله :﴿لا فِيهَا غَوْلٌ﴾ تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا، فإنها لا تغتال العقول كما تغتالها خمرة الدنيا السؤال الثالث : من أين يدل قوله :﴿لا رَيْبَا فِيه ﴾ على نفي الريب بالكلية ؟
الجواب : قرأ أبو الشعثاء ﴿لا رَيْبَا فِيه ﴾ بالرفع. واعلم أن القراءة المشهورة توجب ارتفاع الريب بالكلية، والدليل عليه أن قوله :﴿لا رَيْبَ ﴾ نفي لماهية الريب ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من أفراد الماهية، لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهية لثبتت الماهية، وذلك يناقض نفي الماهية، ولهذا السر كان قولنا :"لا إله إلا الله" نفياً لجميع الآلهة سوى الله تعالى. وأما قولنا :"لا ريب فيه" بالرفع فهو نقيض لقولنا :"ريب فيه" وهو يفيد ثبوت فرد واحد/ فذلك النفي يوجب انتفاء جميع الأفراد ليتحقق التناقض.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٥٨
الوقف على "فيه" :
المسألة الثانية : الوقف على ﴿فِيه ﴾ هو المشهور، وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على ﴿لا رَيْبَ ﴾ ولا بدّ للواقف من أن ينوي خبراً، ونظيره قوله :﴿قَالُوا لا ضَيْرَ ﴾ وقول العرب : لا بأس، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز ؛ والتقدير :﴿لا رَيْبَا فِيه ﴾ ﴿فِيه هُدًى﴾. واعلم أن القراءة الأولى أولى ؛ لأن على القراءة الأولى يكون الكتاب نفسه هدى، وفي الثانية لا يكون الكتاب نفسه هدى بل يكون فيه هدى، والأول أولى لما تكرر في القرآن من أن القرآن نور وهدى والله أعلم.
حقيقة الهدى :
قوله تعالى :﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ فيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon