إذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى حكى عن القوم أنهم قالوا ﴿لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا﴾ ثم ذكر عقيبه ﴿كَذَالِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ فهذا يدل على أن القوم قالوا لما كان الكل بمشيئة الله تعالى وتقديره، كان التكليف عبثاً، فكانت دعوى الأنبياء باطلة، ونبوتهم ورسالتهم باطلة، ثم إنه تعالى بين أن التمسك بهذا الطريق في إبطال النبوة باطل، وذلك لأنه إله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا اعتراض عليه لأحد في فعله، فهو تعالى يشاء الكفر من الكافر، ومع هذا فيبعث إليه الأنبياء ويأمره بالإيمان، وورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع.
فالحاصل : أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم يتمسكون بمشيئة الله تعالى في إبطال نبوة الأنبياء، ثم إنه تعالى بين أن هذا الاستدلال فاسد باطل، فإنه لا يلزم من ثبوت المشيئة لله في كل الأمور دفع دعوة الأنبياء، وعلى هذا الطريق فقط سقط هذا الاستدلال بالكلية، وجميع الوجوه التي ذكرتموها في التقبيح والتهجين عائد إلى تمسككم بثبوت المشيئة لله على دفع دعوة الأنبياء، فيكون الحاصل : أن هذا الاستدلال باطل، وليس فيه البتة ما يدل على أن القول بالمشية باطل.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٧٦
فإن قالوا : هذا العذر إنما يستقيم إذ قرأنا قوله تعالى :﴿كَذَالِكَ كَذَّبَ﴾ بالتسديد. وأما إذا قرأناه بالتخفيف، فإنه يسقط هذا العذر بالكلية فنقول فيه وجهان. الأول : أنا نمنع صحة هذه القراءة، والدليل عليه أنا بينا أن هذه السورة من أولها إلى آخرها تدل على قولنا : فلو كانت هذه الآية دالة على قولهم، لوقع التناقض، ولخرج القرآن عن كونه كلاماً لله تعالى، ويندفع هذا التناقض / بأن لا تقبل هذه القراءة، فوجب المصير إليه. الثاني : سلمنا صحة هذه القراءة لكنا نحملها على أن القوم كذبوا في أنه يلزم من ثبوت مشيئة الله تعالى في كل أفعال العباد سقوط نبوة الأنبياء وبطلان دعوتهم، وإذا حملناه على هذا الوجه لم يبق للمعتزلة بهذه الآية تمسك البتة، والحمد لله الذي أعاننا على الخروج من هذه العهدة القوية، ومما يقوي ما ذكرناه ما روي أن ابن عباس قيل له بعد ذهاب بصره ما تقول فيمن يقول : لا قدر، فقال إن كان في البيت أحد منهم أتيت عليه ويله أما يقرأ ﴿إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَـاهُ بِقَدَرٍ﴾ (القمر : ٤٩) ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُوا وَءَاثَارَهُمْ ﴾ (يس : ١٢) وقال ابن عباس : أول ما خلق الله القلم، قال له اكتب القدر، فجرى بما يكون إلى قيام الساعة، وقال صلوات الله عليه :"المكذبون بالقدر مجوس هذه الأمة".
المسألة الثانية : زعم سيبويه أن عطف الظاهر على المضمر المرفوع في الفعل قبيح، فلا يجوز أن يقال : قمت وزيد، وذلك لأن المعطوف عليه أصل، والمعطوف فرع، والمضمر ضعيف، والمظهر قوي، وجعل القوي فرعاً للضعيف، لا يجوز.
إذا عرفت هذا الأصل فنقول : إن جاء الكلام في جانب الأثبات، وجب تأكيد الضمير فنقول : قمت أنا وزيد، وإن جاء في جانب النفي قلت ما قمت ولا زيد.
إذا ثبت هذا فنقول قوله :﴿لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلا ءَابَآؤُنَا﴾ فعطف قوله :﴿وَلا ءَابَآؤُنَا﴾ على الضمير في قوله :﴿مَآ أَشْرَكْنَا﴾ إلا أنه تخلل بينهما كلمة لا فلا جرم حسن هذا العطف. قال في جامع الأصفهاني : إن حرف العطف يجب أن يكون متأخراً عن اللفظة المؤكدة للضمير حتى يحسن العطف ويندفع المحذور المذكور من عطف القوي على الضعيف، وهذا المقصود إنما يحصل إذا قلنا :﴿مَآ أَشْرَكْنَا وَلا ءَابَآؤُنَا﴾ حتى تكون كلمة ﴿لا﴾ مقدمة على حرف العطف. أما ههنا حرف العطف مقدم على كلمة ﴿لا﴾ وحينئذ يعود المحذور المذكور.
جزء : ١٣ رقم الصفحة : ١٧٦
فالجواب : أن كلمة ﴿لا﴾ لما أدخلت على قوله :﴿ءَابَآؤُنَا﴾ كان ذلك موجباً إضمار فعل هناك، لأن صرف النفي إلى ذوات الآباء محال، بل يجب صرف هذا النفي إلى فعل يصدر منهم، وذلك هو الإشراك، فكان التقدير : ما أشركنا ولا أشرك آباؤنا، وعلى هذا التقدير فالإشكال زائل.
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا على قولهم الكل بمشيئة الله تعالى بقوله :﴿فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاـاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ فكلمة "لو" في اللغة تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فدل هذا على أنه تعالى ما شاء أن يهديهم، وما هداهم أيضاً. وتقريره بحسب الدليل العقلي، أن قدرة الكافر على الكفر إن لم تكن قدرة على الإيمان. الله تعالى على هذا التقدير ما أقدره على الإيمان، فلو شاء الأيمان منه، فقد شاء الفعل / من غير قدرة على الفعل، وذلك محال ومشيئة المحال محال، وإن كانت القدرة على الكفر قدرة على الإيمان توقف رجحان أحد الطرفين على حصول الداعية المرجحة.


الصفحة التالية
Icon