واعلم أنه لما كان يجوز أن يتوهم الإنسان أنه يجب على التحقيق وذلك صعب شديد في العدل أتبعه الله تعالى بما يزيل هذا التشديد فقال :﴿لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ﴾ أي الواجب في إيفاء الكيل والوزن هذا القدر الممكن في إيفاء الكيل والوزن. أما التحقيق فغير واجب. قال القاضي : إذا كان تعالى قد خفف على المكلف هذا التخفيف مع أن ما هو التضييق مقدور له، فكيف يتوهم أنه تعالى يكلف الكافر الإيمان مع أنه لا قدرة له عليه ؟
بل قالوا : يخلق الكفر فيه، ويريده منه، ويحكم به عليه، ويخلق فيه القدرة الموجبة لذلك الكفر، والداعية الموجبة له، ثم ينهاه عنه فهو تعالى لما لم يجوز ذلك القدر من التشديد والتضييق على العبد، وهو إيفاء الكيل والوزن على سبيل التحقيق، فكيف يجوز أن يضيف على العبد مثل هذا التضييق والتشديد ؟
واعلم أنا نعارض القاضي وشيوخه في هذا الموضع بمسألة العلم ومسألة الداعي/ وحينئذ ينقطع ولا يبقى لهذا الكلام رواء ولا رونق.
النوع الثالث : من التكاليف المذكورة في هذه الآية، قوله تعالى :﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾ واعلم أن هذا أيضاً من الأمور الخفية التي أوجب الله تعالى فيها أداء الأمانة، والمفسرون حملوه على أداء الشهادة فقط، والأمر والنهي فقط، قال القاضي وليس الأمر كذلك بل يدخل فيه كل ما يتصل بالقول، فيدخل فيه ما يقول المرء في الدعوة إلى الدين وتقرير الدلائل عليه بأن يذكر الدليل ملخصاً عن الحشو والزيادة بألفاظ مفهومة معتادة، قريبة من الأفهام، ويدخل فيه أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واقعاً على وجه العدل من غير زيادة في الإيذاء والإيحاش، ونقصان عن القدر الواجب، ويدخل فيه الحكايات التي يذكرها الرجل حتى لا يزيد فيها ولا ينقص عنها، ومن جملتها تبليغ الرسالات عن الناس، فإنه يجب أن يؤديها من غير زيادة ولا نقصان، ويدخل فيه حكم الحاكم بالقول، ثم إنه تعالى بين أنه يجب أن يسوي فيه بين القريب والبعيد، لأنه لما كان المقصود منه طلب رضوان الله تعالى لم يختلف ذلك بالقريب والبعيد.
والنوع الرابع : من هذه التكاليف قوله تعالى :﴿وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ﴾ وهذا من خفيات الأمور لأن الرجل قد يحلف مع نفسه، فيكون ذلك الحلف خفياً، ويكون بره وحنثه أيضاً خفياً، ولما ذكر تعالى هذه الأقسام قال :﴿ذَالِكُمْ وَصَّـاكُم بِه لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ١٨٥
فإن قيل : فما السبب في أن جعل خاتمة الآية الأولى بقوله :﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ وخاتمة هذه الآية بقوله :﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.
قلنا : لأن التكاليف الخمسة المذكورة في الأولى أمور ظاهرة جلية، فوجب تعقلها وتفهمها وأما التكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية فأمور خفية غامضة، لا بد فيها من الاجتهاد والفكر حتى يقف على موضع الاعتدال، فلهذا السبب قال :﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ بالتخفيف والباقون بتشديد الذال في كل القرآن وهما بمعنى واحد.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ١٨٥
١٨٦
في الآية مسائل :
المسألة الأولى قرأ ابن عامر ﴿تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَـاذَا﴾ بفتح الألف وسكون النون وقرأ حمزة والكسائي ﴿وَأَنْ﴾ بكسر الألف وتشديد النون أما قراءة ابن عامر فأصلها ﴿وَأَنَّ هَـاذَا صِرَاطِي﴾ والهاء ضمير الشأن والحديث وعلى هذا الشرط تخفف. قال الأعشى :
في فتية كسيوف الهند قد علموا
أن هالك كل من يحفى وينتعل
أي قد علموا أنه هالك، وأما كسر ﴿ءَانٍ﴾ فالتقدير ﴿أَتْلُ مَا حَرَّمَ﴾ (الأنعام : ١٥١) وأتل ﴿وَأَنَّ هَـاذَا صِرَاطِي﴾ بمعنى أقول وقيل على الاستئناف. وأما فتح أن فقال الفراء فتح ﴿ءَانٍ﴾ من وقوع أتل عليها يعني وأتل عليكم ﴿وَأَنَّ هَـاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا﴾ قال : وإن شئت جعلتها خفضاً والتقدير ﴿ذَالِكُمْ وَصَّـاـاكُم بِه ﴾ وبأن هذا صراطي. قال أبو علي : من فتح ﴿ءَانٍ﴾ فقياس قول سيبويه أنه حملها على قوله :﴿فَاتَّبَعُوهُ﴾ والتقدير لأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه كقوله :﴿وَإِنَّ هَـاذِه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ (المؤمنون : ٥٢) وقال سيبويه لأن هذه أمتكم، وقال في قوله :﴿وَأَنَّ الْمَسَـاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ (الجن : ١٨) والمعنى ولأن المساجد لله.
المسألة الثانية : القراء أجمعوا على سكون الياء من ﴿صِرَاطِي﴾ غير ابن عامر فإنه فتحها وقرأ ابن كثير وابن عامر بالسين وحمزة بين الصاد والزاي والباقون بالصاد صافية وكلها لغات قال صاحب "الكشاف" : قرأ الأعمش ﴿وَأَنَّ هَـاذَا صِرَاطِي﴾ وفي مصحف عبد الله ﴿وَهَـاذَا صِرَاطُ رَبِّكَ﴾ وفي مصحف أبي ﴿وَهَـاذَا صِرَاطُ رَبِّكَ﴾.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ١٨٦