والوجه الثالث : قال الفراء : يجوز أن يكون "إن" متعلقة باتقوا، والتأويل : واتقوا أن تقولوا إنما أنزل الكتاب.
البحث الثاني : قوله :﴿أَن تَقُولُوا ﴾ خطاب لأهل مكة، والمعنى : كراهة أن يقول أهل مكة أنزل الكتاب، وهو التوراة والإنجيل على طائفتين من قبلنا، وهم اليهود والنصارى، وإن كنا "إن" هي المحففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، والأصل وأنه كنا عن دراستهم لغافلين، والمراد بهذه الآيات إثبات الحجة عليهم بإنزال القرآن على محمد كي لا يقولوا يوم القيامة إن التوراة والإنجيل أنزلا على طائفتين من قبلنا وكنا غافلين عما فيهما، فقطع الله عذرهم بإنزال القرآن عليهم وقوله :﴿وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَـافِلِينَ﴾ أي لا نعلم ما هي، لأن كتابهم ما كان بلغتنا، ومعنى أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم، مفسر للأول في أن معناه لئلا يقولوا ويحتجوا بذلك، ثم بين تعالى قطع احتجاجهم بهذا، وقال :﴿فَقَدْ جَآءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ وهو القرآن وما جاء به الرسول ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ﴾.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ١٨٧
فإن قيل : البينة والهدى واحد، فما الفائدة في التكرير ؟
قلنا : القرآن بينة فيما يعلم سمعاً وهو هدى فيما يعلم سمعاً وعقلاً، فلما اختلفت الفائدة صح هذا العطف، وقد بينا أن معنى ﴿رَحْمَةً﴾ أي أنه نعمة في الدين.
ثم قال تعالى :﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِـاَايَـاتِ اللَّهِ﴾ والمراد تعظيم كفر من كذب بآيات الله، وصدف عنها، أي منع عنها، لأن الأول ضلال، والثاني منع عن الحق وإضلال.
ثم قال تعالى :﴿سَنَجْزِى الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ ءَايَـاتِنَا سُواءَ الْعَذَابِ﴾ وهو كقوله :﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَـاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ﴾.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ١٨٧
١٨٨
قرأ حمزة والكسائي :﴿يَأْتِيهِمُ﴾ بالياء وفي النحل مثله، والباقون ﴿تَأْتِيَهُمُ﴾ بالتاء.
واعلم أنه تعالى لما بين أنه إنما أنزل الكتاب إزالة للعذر، وإزاحة للعلة، وبين أنهم لا يؤمنون ألبتة وشرح أحوالاً توجب اليأس عن دخولهم في الإيمان فقال :﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَـا اـاِكَةُ﴾ ونظير هذه الآية قوله في سورة البقرة :﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ﴾ (الأنعام : ١٥٨) ومعنى ينظرون ينتظرون وهل استفهام معناه النفي، وتقدير الآية : أنهم لا يؤمنون بك إلا إذا جاءهم أحد هذه الأمور الثلاثة، وهي مجيء الملائكة، أو مجيء الرب، أو مجيء الآيات القاهرة من الرب.
فإن قيل : قوله :﴿أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ﴾ هل يدل على جواز المجيء والغيبة على الله.
قلنا : الجواب عنه من وجوه : الأول : أن هذا حكاية عنهم، وهم كانوا كفاراً، واعتقاد الكافر ليس بحجة، والثاني : أن هذا مجاز. ونظيره قوله تعالى :﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَـانَهُم﴾ (النحل : ٢٦) وقوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ﴾ (الأحزاب : ٥٧) والثالث : قيام الدلائل القاطعة على أن المجيء والغيبة على الله تعالى محال، وأقربها قول الخليل صوات الله عليه في الرد على عبدة الكواكب ﴿لا أُحِبُّ الافِلِينَ﴾ (الأنعام : ٧٦).
فإن قيل : قوله :﴿أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ﴾ لا يمكن حمله على إثبات أثر من آثار قدرته، لأن على هذا التقدير : يصير هذا عين قوله :﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيَهُمُ﴾ فوجب حمله على أن المراد منه إتيان الرب.
قلنا : الجواب المعتمد أن هذا حكاية مذهب الكفار، فلا يكون حجة، وقيل : يأتي ربك بالعذاب، أو يأتي بعض آيات ربك وهو المعجزات القاهرة.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ١٨٨
ثم قال تعالى :﴿يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءَايَـاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ﴾ وأجمعوا على أن المراد بهذه الآيات علامات القيامة، عن البراء بن عازب قال : كنا نتذاكر أمر الساعة إذ أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال : ما تتذاكرون ؟
قلنا : نتذاكر الساعة قال :"إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات، الدخان، ودابة الأرض، وخسفاً بالمشرق، وخسفاً بالمغرب وخسفاً بجزيرة العرب، والدجال. وطلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى، ونار تخرج من عدن" وقوله :﴿لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ﴾ صفة لقوله :﴿نَفْسًا﴾ وقوله :﴿أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَـانِهَا خَيْرًا ﴾ صفة ثانية معطوفة على الصفة الأولى، والمعنى : أن أشراط الساعة إذا ظهرت ذهب أوان التكليف عندها، فلم ينفع الإيمان نفساً ما آمنت قبل ذلك، وما كسبت في إيمانها خيراً قبل ذلك.
ثم قال تعالى :﴿قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴾ وعيد وتهديد.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ١٨٨
١٨٩