قلنا فيه وجوه : أحدها : أن القوم لا يسألون عن الأعمال، لأن الكتب مشتملة عليها ولكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال/ وعن الصوارف التي صرفتم عنها. وثانيها : أن السؤال قد يكون لأجل الاسترشاد والاستفادة، وقد يكون لأجل التوبيخ والإهانة، كقول القائل ألم أعطك وقوله تعالى :﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَـابَنِى ءَادَمَ أَن لا تَعْبُدُوا الشَّيطَـانَا إِنَّه لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ (يس : ٦٠) قال الشاعر :
ألستم خير من ركب المطايا
إذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى لا يسأل أحداً لأجل الاستفادة والاسترشاد، ويسألهم لأجل توبيخ الكفار وإهانتهم، ونظيره قوله تعالى :﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ (الصافات : ٢٧) ثم قال :﴿فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ وَلا يَتَسَآءَلُونَ﴾ (المؤمنون : ١٠١) فإن الآية الأولى تدل على أن المسألة الحاصلة بينهم إنما كانت على سبيل أن بعضهم يلوم بعضاً، والدليل عليه قول :﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَـاوَمُونَ﴾ (القلم : ٣٠) وقوله :﴿فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ وَلا يَتَسَآءَلُونَ﴾ (القلم : ٣٠) معناه أنه لا يسأل بعضهم بعضاً على سبيل الشفقة واللطف، لأن النسب يوجب الميل والرحمة والإكرام.
والوجه الثالث : في الجواب : أن يوم القيامة يوم طويل ومواقفها كثيرة، فأخبر عن بعض الأوقات بحصول السؤال، وعن بعضها بعدم السؤال.
المسألة الرابعة : الآية تدل على أنه تعالى يحاسب كل عباده، لأنهم لا يخرجون عن أن يكونوا رسلاً أو مرسلاً إليهم، ويبطل قول من يزعم أنه لا حساب على الأنبياء والكفار.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٠٢
المسألة الخامسة : الآية تدل على كونه تعالى متعالياً عن المكان والجهة، لأنه تعالى قال :﴿وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ﴾ ولو كان تعالى على العرش لكان غائباً عنا.
فإن قالوا : نحمله على أنه تعالى ما كان غائباً عنهم بالعلم والإحاطة.
قلنا : هذا تأويل والأصل في الكلام حمله على الحقيقة.
فإن قالوا : فأنتم لما قلتم أنه تعالى غير مختص بشيء من الأحياز والجهات، فقد قلتم أيضاً بكونه غائباً.
قلنا : هذا باطل لأن الغائب هو الذي يعقل أن يحضر بعد غيبة، وذلك مشروط بكونه مختصاً بمكان وجهة، فأما الذي لا يكون مختصاً بمكان وجهة وكان ذلك محالاً في حقه، امتنع وصفه بالغيبة والحضور، فظهر الفرق والله أعلم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٠٢
٢٠٤
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن من جملة أحوال القيامة السؤال والحساب، بين في هذه الآية أن من جملة أحوال القيامة أيضاً وزن الأعمال، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى :﴿الْوَزْنَ﴾ مبتدأ و﴿يَوْمَـاـاِذٍ﴾ ظرف له و﴿الْحَقِّ ﴾ خبر المبتدأ، ويجوز أن يكون ﴿يَوْمَـاـاِذٍ﴾ الخبر و﴿الْحَقِّ ﴾ صفة للوزن، أي والوزن الحق، أي العدل يوم يسأل الله الأمم والرسل.


الصفحة التالية
Icon