أما القياس الذي يخصص النص في بعض الصور فلم قلتم أنه باطل ؟
وتقريره أنه لو قبح أمر من كان مخلوقاً من النار بالسجود لمن كان مخلوقاً من الأرض، لكان قبح أمر من كان مخلوقاً من النور المحض بالسجود لمن كان مخلوقاً من الأرض أولى وأقوى، لأن النور أشرف من النار، وهذا القياس يقتضي أن يقبح أمر أحد من الملائكة بالسجود لآدم، فهذا القياس يقتضي رفع مدلول النص بالكلية وأنه باطل.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٠٩
وأما القياس الذي يقتضي تخصيص مدلول النص العام، لم قلتم : إنه باطل ؟
فهذا سؤال حسن أوردته على هذه الطريقة وما رأيت أحداً ذكر هذا السؤال ويمكن أن يجاب عنه، فيقال : إن كونه أشرف من غيره يقتضي قبح أمر من لا يرضى أن يلجأ إلى خدمة الأدنى الأدون، أما لو رضي ذلك الشريف بتلك الخدمة لم يقبح، لأنه لا اعتراض عليه في أنه يسقط حق نفسه، أما الملائكة فقد رضوا بذلك، فلا بأس به، وأما إبليس فإنه لم يرض بإسقاط هذا الحق، فوجب أن يقبح أمره بذلك السجود، فهذا قياس مناسب، وأنه يوجب تخصيص النص ولا يوجب رفعه بالكلية ولا إبطاله. فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزاً، لما استوجب الذم العظيم، فلما استوجب استحقاق هذا الذم العظيم في حقه علمنا أن ذلك إنما كان لأجل أن تخصيص النص بالقياس غير جائز. والله أعلم.
المسألة السابعة : قوله تعالى :﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ﴾ لا شك أن قائل هذا القول هو الله لأن قوله :﴿إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾ لا يليق إلا بالله سبحانه.
وأما قوله :﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ﴾ فلا شك أن قائل هذا القول هو إبليس.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٠٩
٢١٠
وأما قوله :﴿قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا﴾ فلا شك أن قائل هذا القول هو الله تعالى، ومثل هذه المناظرة بين الله سبحانه وبين إبليس مذكور في سورة ﴿ ﴾ على سبيل الاستقصاء.
إذا ثبت هذا فنقول : إنه لم يتفق لأحد من أكابر الأنبياء عليهم السلام مكالمة مع الله مثل ما اتفق لإبليس، وقد عظم الله تشريف موسى بأن كلمه حيث قال :﴿وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَـاتِنَا وَكَلَّمَه رَبُّه ﴾ (الأعراف : ١٤٣) وقال :﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ (النساء : ١٦٤) فإن كانت هذه المكالمة تفيد الشرف العظيم فكيف حصلت على أعظم الوجوه لإبليس ؟
وإن لم توجب الشرف العظيم، فكيف ذكره الله تعالى في معرض التشريف الكامل لموسى عليه السلام ؟
والجواب : أن بعض العلماء قال : إنه تعالى قال لإبليس على لسان من يؤدي إليه من الملائكة ما منعك من السجود ؟
ولم يسلم أنه تعالى تكلم مع إبليس بلا واسطة. قالوا : لأنه ثبت أن غير الأنبياء لا يخاطبهم الله تعالى إلا بواسطة، ومنهم من قال : إنه تعالى تكلم مع إبليس بلا واسطة، ولكن على وجه الإهانة بدليل أنه تعالى قال له :﴿فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّـاغِرِينَ﴾ وتكلم مع موسى ومع سائر الأنبياء عليهم السلام على سبيل الإكرام. ألا ترى أنه تعالى قال لموسى :﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ﴾ (طه : ١٣) وقال له ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى﴾ (طه : ٤١) وهذا نهاية الإكرام.
المسألة الثامنة : قوله تعالى :﴿فَاهْبِطْ مِنْهَا﴾ قال ابن عباس : يريد من الجنة، وكانوا في جنة عدن وفيها خلق آدم. وقال بعض المعتزلة : أنه إنما أمر بالهبوط من السماء، وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في سورة البقرة :﴿فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا﴾ أي في السماء. قال ابن عباس : يريد أن أهل السموات ملائكة متواضعون خاشعون فاخرج إنك من الصاغرين، والصغار الذلة. قال الزجاج : إن إبليس طلب التكبر فابتلاه الله تعالى بالذلة والصغار تنبيهاً على صحة ما قاله النبي صلى الله عليه وسلّم :"من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله" وقال بعضهم : لما أظهر الاستكبار ألبس الصغار. والله أعلم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢١٠
٢١٦
في الآية مسائل :


الصفحة التالية
Icon