المسألة الثالثة : قال القاضي : هذا القول من إبليس كالدلالة على بطلان ما يقال : إنه يدخل في بدن ابن آدم ويخالطه، لأنه لو أمكنه ذلك لكان بأن يذكره في باب المبالغة أحق.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢١٦
ثم قال تعالى حكاية عن إبليس أنه قال :﴿وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـاكِرِينَ﴾ وفيه سؤال : وهو أن هذا من باب الغيب فكيف عرف إبليس ذلك فلهذا السبب اختلف العلماء فيه فقال بعضهم كان قد رآه في اللوح المحفوظ، فقال له على سبيل القطع واليقين. وقال آخرون : إنه قاله على سبيل الظن لأنه كان عازماً على المبالغة في تزيين الشهوات وتحسين الطيبات، وعلم أنها أشياء يرغب فيها غلب على ظنه أنهم يقبلون قوله فيها على سبيل الأكثر والأغلب ويؤكد هذا القول بقوله تعالى :﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّه فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا﴾ (سبأ : ٢٠) والعجب أن إبليس قال للحق سبحانه وتعالى :﴿وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـاكِرِينَ﴾ فقال الحق ما يطابق ذلك ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ﴾ (سبأ : ١٣) وفيه وجه آخر. وهو أنه حصل للنفس تسع عشرة قوة، وكلها تدعو النفس إلى اللذات الجسمانية. والطيبات الشهوانية فخمسة منها هي الحواس الظاهرة، وخمسة أخرى هي الحواس الباطنة، واثنان الشهوة والغضب، وسبعة هي القوى الكامنة، وهي الجاذبة، والماسكة، والهاضمة، والدافعة، والغاذية، والنامية، والمولدة فمجموعها تسعة عشر وهي بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم وترغبها في طلب اللذات البدنية، وأما العقل فهو قوة واحدة، وهي التي تدعو النفس إلى عبادة الله تعالى وطلب السعادات الروحانية ولا شك أن استيلاء تسع عشرة قوة أكمل من استيلاء القوة الواحدة. لا سيما وتلك القوى التسعة عشر تكون في أول الخلقة قوية ويكون العقل ضعيفاً جداً وهي بعد قوتها يعسر جعلها ضعيفة مرجوحة فلما كان الأمر كذلك، لزم القطع بأن أكثر الخلق يكونون طالبين لهذه اللذات الجسمانية معرضين عن معرفة الحق ومحبته فلهذا السبب قال :﴿وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـاكِرِينَ﴾ والله أعلم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢١٦
٢١٦
اعلم أن إبليس لما وعد بالإفساد الذي ذكره، خاطبه الله تعالى بما يدل على الزجر والإهانة فقال :﴿أَخْرَجَ مِنْهَا﴾ من الجنة أو من السماء قال الليث : ذأمت الرجل فهو مذؤم أي محقور والذام الاحتقار، وقال الفراء : ذأمته إذا عبته يقولون في المثل لا تعدم الحسناء ذاماً. وقال ابن / الأنباري المذؤم المذموم قال ابن قتيبة مذؤماً مذموماً بأبلغ الذم قال أمية :
وقال لإبليس رب العباد
أن اخرج دحيراً لعيناً ذؤما
وقوله :﴿مَذْمُومًا مَّدْحُورًا﴾ الدحر في اللغة الطرد والتبعيد، يقال دحره دحراً ودحوراً إذا طرده وبعده ومنه قوله تعالى :﴿وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا ﴾ (الصافات : ٨، ٩) وقال أمية :
وبإذنه سجدوا لآدم كلهم
إلا لعيناً خاطئاً مدحوراً
وقوله :﴿لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ﴾ اللام فيه لام القسم، وجوابه قوله :﴿لامْلَأَنَّ﴾ قال صاحب "الكشاف" روى عصمة عن عاصم :﴿لَّمَن تَبِعَكَ﴾ بكسر اللام بمعنى ﴿لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ﴾ هذا الوعيد وهو قوله :﴿لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ وقيل : إن لأملأن في محل الابتداء ﴿لَّمَن تَبِعَكَ﴾ خبره قال أبو بكر الأنباري الكناية في قوله :﴿لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ﴾ عائد على ولد آدم لأنه حين قال :﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَـاكُمْ﴾ (الأعراف : ١١) كان مخاطباً لولد آدم فرجعت الكناية إليهم. قال القاضي : دلت هذه الآية على أن التابع والمتبوع معنيان في أن جهنم تملأ منهما ثم أن الكافر تبعه، فكذلك الفاسق تبعه فيجب القطع بدخول الفاسق النار، وجوابه أن المذكور في الآية أنه تعالى يملأ جهنم ممن تبعه، وليس في الآية أن كل من تبعه فإنه يدخل جهنم فسقط هذا الاستدلال، ونقول هذه الآية تدل على أن جميع أصحاب البدع والضلالات يدخلون جهنم لأن كلهم متابعون لإبليس. والله أعلم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢١٦
٢١٧


الصفحة التالية
Icon