والجواب : أن المحققين أنكروا حصول هذا التصديق قطعاً وظناً، بل الصواب أنهما إنما أقدما على الأكل لغلبة الشهوة، لا أنهما صدقاه علماً أو ظناً كما نجد أنفسنا عند الشهوة نقدم على الفعل إذا زين لنا الغير ما نشتهيه، وإن لم نعتقد أن الأمر كما قال.
السؤال الخامس : قوله :﴿إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَـالِدِينَ﴾ هذا الترغيب والتطميع وقع في مجموع الأمرين أو في أحدهما.
والجواب : قال بعضهم : الترغيب كان في مجموع الأمرين، لأن أدخل في الترغيب. وقيل : بل هو على ظاهره على طريقة التخيير.
ثم قال تعالى :﴿وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّـاصِحِينَ﴾ أي وأقسم لهما إني لكما لمن الناصحين.
فإن قيل : المقاسمة أن تقسم لصاحبك ويقسم لك. تقول : قاسمت فلاناً أي حالفته، وتقاسما تحالفاً ومنه قوله تعالى :﴿تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّه وَأَهْلَه ﴾ (النمل : ٤٩).
قلنا : فيه وجوه : الأول : التقدير أنه قال : أقسم لكما إني لكما لمن الناصحين. وقالا له : أتقسم بالله إنك لمن الناصحين ؟
فجعل ذلك مقاسمة بينهم. والثاني : أقسم لهما بالنصيحة، وأقسما له بقبولها. الثالث : أنه أخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة، لأنه اجتهد فيه اجتهاد المقاسم.
إذا عرفت هذا فنقول : قال قتادة : حلف لهما بالله حتى خدعهما، وقد يخدع المؤمن بالله، وقوله :﴿إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّـاصِحِينَ﴾ أي قال إبليس : إني خلقت قبلكما، وأنا أعلم أحوالاً كثيرة من المصالح والمفاسد لا تعرفانها فامتثلا قولي أرشدكما.
ثم قال تعالى :﴿فَدَلَّـاهُمَا بِغُرُورٍ ﴾ وذكر أبو منصور الأزهري لهذه الكلمة أصلين : أحدهما : أصل الرجل العطشان يدلي رجليه في البئر ليأخذ الماء فلا يجد فيها ماء، فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه. فيقال : دلاه إذا أطعمه. الثاني :﴿فَدَلَّـاهُمَا بِغُرُورٍ ﴾ أي أجرأهما إبليس على أكل الشجرة بغرور، والأصل فيه دللهما من الدل، والدالة وهي الجرأة.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٢١
إذا عرفت هذا فنقول : قال ابن عباس :﴿فَدَلَّـاهُمَا بِغُرُورٍ ﴾ أي غرهما باليمين، وكان آدم يظن أن أحداً لا يحلف بالله كاذباً. وعن ابن عمر رضي الله عنه : أنه كان إذا رأى من عبده طاعة وحسن صلاة أعتقه، فكان عبيده يفعلون ذلك طلباً للعتق. فقيل له : إنهم يخدعونك، فقال : من خدعنا بالله انخدعنا له.
ثم قال تعالى :﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ﴾ وذلك يدل على أنهما تناولا اليسير قصداً إلى معرفة طعمه، ولولا أنه تعالى ذكر في آية أخرى أنهما أكلا منها، لكان ما في هذه الآية لا يدل على الأكل، لأن الذائق قد يكون ذائقاً من دون أكل.
ثم قال تعالى :﴿بَدَتْ لَهُمَا﴾ أي ظهرت عوراتهما، وزال النور عنهما ﴿سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ﴾ قال الزجاج : معنى طفق : أخذ في الفعل ﴿يَخْصِفَانِ﴾ أي يجعلان ورقة على ورقة. ومنه قيل للذي يرقع النعل خصاف، وفيه دليل على أن كشف العورة قبيح من لدن آدم، ألا ترى أنهما كيف بادرا إلى الستر لما تقرر في عقلهما من قبح كشف العورة ﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ﴾ قال عطاء : بلغني أن الله ناداهما أفراراً مني يا آدم. قال بل حياء منك يا رب ما ظننت أن أحداً يقسم باسمك كاذباً، ثم ناداه ربه أما خلقتك بيدي، أما نفخت فيك من روحي، أما أسجدت لك ملائكتي، أما أسكنتك في جنتي في جواري
ثم قال :﴿وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيْطَـانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ قال ابن عباس : بين العداوة حيث أبى السجود وقال :﴿لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (الأعراف : ١٦).
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٢١
٢٢١
اعلم أن هذه الآية مفسرة في سورة البقرة، وقد ذكرنا هناك أن هذه الآية تدل على صدور الذنب العظيم من آدم عليه السلام، إلا أنا نقول : هذا الذنب إنما صدر عنه قبل النبوة. وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٢١
٢٢١
اعلم أن هذا الذي تقدم ذكره هو آدم، وحواء، وإبليس، وإذا كان كذلك فقوله :﴿اهْبِطُوا ﴾ يجب أن يتناول هؤلاء الثلاثة ﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾ يعني العداوة ثابتة بين الجن والإنس لا تزول ألبتة. وقوله :﴿فِيهَا تَحْيَوْنَ﴾ الكناية عائدة إلى الأرض في قوله :﴿وَلَكُمْ فِى الارْضِ﴾ والمراد في الأرض تعيشون وفيها تموتون ومنها تخرجون إلى البعث والقيامة. قرأ حمزة والكسائي ﴿تُخْرَجُونَ﴾ بفتح التاء وضم الراء، وكذلك في الروم والزخرف والجاثية، وقرأ ابن عامر ههنا، وفي الزخرف بفتح التاء، وفي الروم والجاثية بضم التاء، والباقون جميع ذلك بضم التاء.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٢١
٢٢٢
في نظم الآية وجهان :


الصفحة التالية
Icon