القول الأول : قال ابن عباس :﴿كَمَا بَدَأَكُمْ﴾ خلقكم مؤمناً أو كافراً ﴿تَعُودُونَ﴾ فبعث المؤمن مؤمناً، والكافر كافراً، فإن من خلقه الله في أول الأمر للشقاوة، أعمله بعمل أهل الشقاوة، وكانت عاقبته الشقاوة، وان خلقه للسعادة أعمله بعمل أهل السعادة، وكانت عاقبته السعادة.
والقول الثاني : قال الحسن ومجاهد :﴿كَمَا بَدَأَكُمْ﴾ خلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئاً، كذلك تعودون أحياء، فالقائلون بالقول الأول : احتجوا على صحته بأنه تعالى ذكر عقيبه قوله :﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَـالَةُ ﴾ وهذا يجري مجرى التفسير لقوله :﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ وذلك يوجب ما قلناه. قال القاضي : هذا القول باطل، لأن أحداً لا يقول إنه تعالى بدأنا مؤمنين أو كافرين، لأنه لا بد في الإيمان والكفر أن يكون طارئاً وهذا السؤال ضعيف، لأن جوابه أن / يقال : كما بدأكم بالإيمان، والكفر، والسعادة، والشقاوة، فكذلك يكون الحال عليه يوم القيامة. واعلم أنه تعالى أمر في الآية أولاً بكلمة "القسط" وهي كلمة لا إله إلا الله، ثم أمر بالصلاة ثانياً، ثم بين أن الفائدة في الإتيان بهذه الأعمال، إنما تظهر في الدار الآخرة، ونظيره قوله عالى في "طه" لموسى عليه السلام :﴿إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصَّلَواةَ لِذِكْرِى * إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ (طه : ١٤/ ١٥).
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٢٨
ثم قال تعالى :﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَـالَةُ ﴾ وفيه بحثان :
البحث الأول : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الهدى والضلال من الله تعالى. قالت المعتزلة : المراد فريقاً هدى إلى الجنة والثواب، وفريقاً حق عليهم الضلالة، أي العذاب والصرف عن طريق الثواب. قال القاضي : لأن هذا هو الذي يحق عليهم دون غيرهم، إذ العبد لا يستحق، لأن يضل عن الدين، إذ لو استحق ذلك لجاز أن يأمر أنبياءه بإضلالهم عن الدين، كما أمرهم بإقامة الحدود المستحقة، وفي ذلك زوال الثقة بالنبوات.
واعلم أن هذا الجواب ضعيف من وجهين : الأول : أن قوله :﴿فَرِيقًا هَدَى ﴾ إشارة إلى الماضي وعلى التأويل الذي يذكرونه يصير المعنى إلى أنه تعالى سيهديهم في المستقبل، ولو كان المراد أنه تعالى حكم في الماضي بأنه سيهديهم إلى الجنة، كان هذا عدولاً عن الظاهر من غير حاجة، لأنا بينا بالدلائل العقلية القاطعة أن الهدى والضلال ليسا إلا من الله تعالى. والثاني : نقول هب أن المراد من الهداية والضلال حكم الله تعالى بذلك، إلا أنه لما حصل هذا الحكم امتنع من العبد صدور غيره، وإلا لزم انقلاب ذلك الحكم كذباً، والكذب على الله محال، والمفضي إلى المحال محال، فكان صدور غير ذلك الفعل من العبد محالاً، وذلك يوجب فساد مذهب المعتزلة من هذا الوجه. والله أعلم.
البحث الثاني : انتصاب قوله :﴿وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَـالَةُ ﴾ بفعل يفسره ما بعده، كأنه قيل : وخذل فريقاً حق عليهم الضلالة، ثم بين تعالى أن الذي لأجله حقت على هذه الفرقة الضلالة، هو أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله فقبلوا ما دعوهم إليه، ولم يتأملوا في التمييز بين الحق والباطل.
فإن قيل : كيف يستقيم هذا التفصيل مع قولكم، بأن الهدى والضلال إنما يحصل بخلق الله تعالى ابتداء. فنقول : عندنا مجموع القدرة، والداعي يوجب الفعل، والداعية التي دعتهم إلى ذلك الفعل/ هي : أنهم اتخذوا الشيطان أولياء من دون الله.
ثم قال تعالى :﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ﴾ قال ابن عباس : يريد ما بين لهم عمرو بن لحي، وهذا بعيد / بل هو محمول على عمومه، فكل من شرع في باطل، فهو يستحق الذم والعذاب سواء حسب كونه حقاً، أو لم يحسب ذلك، وهذا الآية تدل على أن مجرد الظن والحسبان لا يكفي في صحة الدين، بل لا بد فيه من الجزم والقطع واليقين، لأنه تعالى عاب الكفار بأنهم يحسبون كونهم مهتدين، ولولا أن هذا الحسبان مذموم، وإلا لما ذمهم بذلك. والله أعلم.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٢٨
٢٣٢
اعلم أن الله تعالى لما أمر بالقسط في الآية الأولى، وكان من جملة القسط أمر اللباس وأمر المأكول والمشروب، لا جرم أتبعه بذكرهما، وأيضاً لما أمر بإقامة الصلاة في قوله :﴿وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ (الأعراف : ٢٩) وكان ستر العورة شرطاً لصحة الصلاة. لا جرم أتبعه بذكر اللباس وفي الآية مسائل :


الصفحة التالية
Icon