والقول الثاني : أن المراد من هذا النصيب شيء سوى العذاب، واختلعوا فيه فقيل : هم اليهود والنصارى يجب لهم علينا إذا كانوا أهل ذمة لنا أن لا تتعدى عليهم وأن ننصفهم وأن نذب عنهم فذلك هو معنى النصيب من الكتاب وقال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير : أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب. أي ما سبق لهم في حكم الله وفي مشيئته من الشقاوة والسعادة، فإن قضى الله لهم بالختم على الشقاوة، أبقاهم على كفرهم، وإن قضى لهم بالختم على السعادة نقلهم إلى الإيمان والتوحيد، وقال الربيع وابن زيد. يعني : ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال والأعمار، فإذا فنيت وانقرضت وفرغوا منها ﴿جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾ واعلم أن هذا الاختلاف إنما حصل، لأنه تعالى قال :﴿ أولئك يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَـابِ ﴾ ولفظ "النصيب" مجمل محتمل لكل الوجوه المذكورة. وقال بعض المحققين : حمله على العمر والرزق أولى، لأنه تعالى بين أنهم وإن بلغوا في الكفر ذلك المبلغ العظيم، إلا أن ذلك ليس بمانع من أن ينالهم ما كتب لهم من رزق وعمر تفضلاً من الله تعالى، لكي يصلحوا ويتوبوا، وأيضاً فقوله :﴿حَتَّى ا إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾ يدل على أن مجيء الرسل للتوفي، كالغاية لحصول ذلك النصيب، فوجب أن يكون حصول ذلك النصيب متقدماً على حصول الوفاة، والمتقدم على حصول الوفاة، ليس إلا العمر والرزق.
أما قوله :﴿حَتَّى ا إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الخليل وسيبويه : لا يجوز إمالة "حتى" و"ألا" و"أما" وهذه ألفات ألزمت الفتح، لأنها أواخر حروف جاءت لمعان يفصل بينها وبين أواخر الأسماء التي فيها الألف، نحو : حبلى وهدى. إلا أن ﴿حَتَّى ﴾ كتبت بالياء لأنها على أربعة أحرف فأشبهت سكرى. وقال بعض النحويين : لا يجوز إمالة ﴿حَتَّى ﴾ لأنها حرف لا يتصرف، والإمالة ضرب من التصرف.
المسألة الثانية : قوله :﴿حَتَّى ا إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾ فيه قولان :
القول الأول : المراد هو قبض الأرواح، لأن لفظ الوفاة يفيد هذا المعنى. قال ابن عباس الموت قيامة الكافر، فالملائكة يطالبونهم بهذه الأشياء عند الموت على سبيل الزجر والتوبيخ والتهديد، وهؤلاء الرسل هم ملك الموت وأعوانه.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٣٧
والقول الثاني : وهو قول الحسن، وأحد قولي الزجاج أن هذا لا يكون في الآخرة ومعنى قوله :﴿حَتَّى ا إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا﴾ أي ملائكة العذاب ﴿يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾ أي يتوفون مدتهم عند حشرهم إلى / النار على معنى أنهم يستكملون عدتهم، حتى لا ينفلت منهم أحد.
المسألة الثالثة : قوله :﴿أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ معناه. أين الشركاء الذين كنتم تدعونهم وتعبدونهم من دون الله : ولفظة "ما" وقعت موصولة بأين في خط المصحف. قال صاحب "الكشاف" : وكان حقها أن تفصل، لأنها موصولة بمعنى : أين الآلهة الذين تدعون.
ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا :﴿ضَلُّوا عَنَّا﴾ أي بطلوا وذهبوا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين عند معاينة الموت.
واعلم أن على جميع الوجوه، فالمقصود من الآية زجر الكفار عن الكفر، لأن التهويل يذكر هذه الأحوال مما يحمل العاقل على المبالغة في النظر والاستدلال والتسدد في الاحتراز عن التقليد.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٣٧
اعلم أن هذه الآية من بقية شرح أحوال الكفار وهو أنه تعالى يدخلهم النار.
أما قوله تعالى :﴿قَالَ ادْخُلُوا ﴾ ففيه قولان : الأول : إن الله تعالى يقول ذلك. والثاني : قال مقاتل : هو من كلام خازن النار، وهذا الاختلاف بناء على أنه تعالى هل يتكلم مع الكفار أم لا، وقد ذكرنا هذه المسألة بالاستقصاء.
أما قوله تعالى :﴿ادْخُلُوا فِى أُمَمٍ﴾ ففيه وجهان :
الوجه الأول : التقدير : ادخلوا في النار مع أمم، وعلى هذا القول ففي الآية إضمار ومجاز أما الأضمار فلأنا أضمرنا فيها قولنا : في النار. وأما المجاز، فلأنا حملنا كلمة "في" على "مع" لأنا قلنا معنى قوله :﴿فِى أُمَمٍ﴾ أي مع أمم.


الصفحة التالية
Icon