جسم الجمال وأحلام العصافير
فجسم الجمل أعظم الأجسام، وثقب الإبرة أضيق المنافذ، فكان ولوج الجمل في تلك الثقبة الضيقة محالاً، فلما وقف الله تعالى دخولهم الجنة على حصول هذا الشرط، وكان هذا شرطاً محالاً، وثبت في العقول أن الموقوف على المحال محال، وجب أن يكون دخولهم الجنة مأيوساً منه قطعاً.
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" : قرأ ابن عباس ﴿الْجَمَلُ﴾ بوزن القمل، وسعيد بن جبير ﴿الْجَمَلُ﴾ بوزن النغر. وقرىء ﴿الْجَمَلُ﴾ بوزن القفل، و﴿الْجَمَلُ﴾ بوزن النصب، و﴿الْجَمَلُ﴾ بوزن الحبل، ومعناها : القلس الغليظ، لأنه حبال جمعت وجعلت جملة واحدة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى أحسن تشبيهاً من أن يشبه بالجمل. يعني : أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة، والبعير لا يناسبه. إلا أنا ذكرنا الفائدة فيه.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٤١
المسألة الثالثة : القائلون بالتناسخ احتجوا بهذه الآية، فقالوا : إن الأرواح التي كانت في أجساد البشر لما عصت وأذنبت، فإنها بعد موت الأبدان ترد من بدن إلى بدن، ولا تزال تبقى في التعذيب حتى أنها تنتقل من بدن الجمل إلى بدن الدودة التي تنفذ في سم الخياط، فحينئذ تصير مطهرة عن تلك الذنوب والمعاصي، وحينئذ تدخل الجنة وتصل إلى السعادة. واعلم أن القول بالتناسخ باطل وهذا الاستدلال ضعيف. والله أعلم.
ثم قال تعالى :﴿وَكَذَالِكَ نَجْزِى الْمُجْرِمِينَ﴾ أي ومثل هذا الذي وصفنا نجزي المجرمين، والمجرمون والله أعلم ههنا هم الكافرون، لأن الذي تقدم ذكره من صفتهم هو التكذيب بآيات الله، والاستكبار عنها.
واعلم أنه تعالى لما بين من حالهم أنهم لا يدخلون الجنة ألبتة بين أيضاً أنهم يدخلون النار، فقال ﴿لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى :"المهاد" جمع مهد، وهو الفراش. قال الأزهري : أصل المهد في اللغة الفرش، يقال للفراش مهاد لمواتاته، والغواشي جمع غاشية، وهي كل ما يغشاك، أي يجللك، وجهنم لا تنصرف لاجتماع التأنيث فيها والتعريف، وقيل اشتقاقها من الجهمة، وهي الغلظ، يقال :/ رجل جهم الوجه غليظه، وسميت بهذا لغلظ أمرها في العذاب. قال المفسرون : المراد من هذه الآية الأخبار عن إحاطة النار بهم من كل جانب، فلهم منها غطاء ووطاء، وفراش ولحاف.
المسألة الثانية : لقائل أن يقول : إن غواش، على وزن فواعل، فيكون غير منصرف، فكيف دخله التنوين ؟
وجوابه على مذهب الخليل وسيبويه إن هذا جمع، والجمع أثقل من الواحد، وهو أيضاً الجمع الأكبر الذي تتناهى الجموع إليه، فزاده ذلك ثقلاً، ثم وقعت الياء في آخره وهي ثقيلة، فلما اجتمعت فيه هذه الأشياء خففوها بحذف يائه، فلما حذفت الياء نقص عن مثال فواعل، وصار غواش بوزن جناح، فدخله التنوين لنقصانه عن هذا المثال.
أما قوله :﴿وَكَذَالِكَ نَجْزِى الظَّـالِمِينَ﴾ قال ابن عباس : يريد الذين أشركوا بالله واتخذوا من دونه إلهاً وعلى هذا التقدير : فالظالمون ههنا هم الكافرون.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٤١
٢٤٥
اعلم أنه تعالى لما استوفى الكلام في الوعيد أتبعه بالوعد في هذه الآية، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن أكثر أصحاب المعاني على أن قوله تعالى :﴿لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ﴾ اعتراض وقع بين المبتدأ والخبر والتقدير ﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ أُوالَـا ئِكَ أَصْحَـابُ الْجَنَّةِا هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ﴾ (البقرة : ٨٢) وإنما حسن وقوع هذا الكلام بين المبتدأ والخبر، لأنه من جنس هذا الكلام، / لأنه لما ذكر عملهم الصالح، ذكر أن ذلك العمل في وسعهم غير خارج عن قدرتهم، وفيه تنبيه للكفار على أن الجنة مع عظم محلها يوصل إليها بالعمل السهل من غير تحمل الصعب. وقال قوم : موضعه خبر عن ذلك المبتدأ والعائد محذوف، كأنه قيل : لا نكلف نفساً منهم إلا وسعها، وإنما حذف العائد للعلم به.
المسألة الثانية : معنى الوسع ما يقدر الإنسان عليه في حال السعة والسهولة لا في حال الضيق والشدة، والدليل عليه : أن معاذ بن جبل قال في هذه الآية إلا يسرها لا عسرها. وأما أقصى الطاقة يسمى جهداً لا وسعاً، وغلط من ظن أن الوسع بذل المجهود.


الصفحة التالية
Icon