ثم قال :﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ والمعنى أنه تعالى أخبر أن أهل الأعراف لم يدخلوا الجنة، ومع ذلك فهم يطمعون في دخولها، ثم إن قلنا أن أصحاب الأعراف هم الأشراف من أهل الجنة فقد ذكرنا أنه تعالى إنما أجلسهم على الأعراف وأخر إدخالهم الجنة ليطلعوا على أحوال أهل الجنة والنار، ثم إنه تعالى ينقلهم إلى الدرجات العالية في الجنة كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"إن أهل الدرجات العلا ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء، وأن أبا بكر وعمر منهم" وتحقيق الكلام أن أصحاب الأعراف هم أشراف أهل القيامة، فعند وقوف أهل القيامة في الموقف يجلس الله أهل الأعراف في الاعراف، وهي المواضع العالية الشريفة فإذا أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار نقلهم إلى الدرجات العالية في الجنة، فهم أبداً لا يجلسون إلا في الدرجات العالية. وأما إن فسرنا أصحاب الأعراف بأنهم الذين يكونون في الدرجة النازلة من أهل النجاة قلنا أنه تعالى يجلسهم في الأعراف وهم يطعمون من فضل الله وإحسانه أن ينقلهم من تلك المواضع إلى الجنة. وأما قوله تعالى :﴿وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَـارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَـابِ النَّارِ﴾ فقال الواحدي رحمه الله التلقاء جهة اللقاء، وهي جهة المقابلة، ولذلك كان ظرفاً من ظروف المكان يقال فلان تلقاءك كما يقال هو حذاءك، وهو في الأصل مصدر استعمل ظرفاً/ ثم نقل الواحدي رحمه الله بإسناده عن ثعلب عن الكوفيين والمبرد عن البصريين أنهما قالا : لم يأت من المصادر على تفعال "إلا" حرفان تبيان وتلقاء، فإذا تركت هذين استوى ذلك القياس، / فقلت في كل مصدر تفعال بفتح التاء، مثل تسيار وترسال. وقلت في كل اسم تفعال بكسر التاء، مثل تمثال وتقصار، ومعنى الآية : أنه كلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النار تضرعوا إلى الله تعالى في أن لا يجعلهم من زمرتهم. والمقصود من جميع هذه الآيات التخويف، حتى يقدم المرء على النظر والاستدلال، ولا يرضى بالتقليد ليفوز بالدين الحق، فيصل بسببه إلى الثواب المذكور في هذه الآيات، ويتخلص عن العقاب المذكور فيها.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٥١
٢٥٢
اعلم أنه تعالى لما بين بقوله :﴿وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَـارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَـابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا﴾ (الأعراف : ٤٧) أتبعه أيضاً بأن أصحاب الأعراف ينادون رجالاً من أهل النار، واستغنى عن ذكر أهل النار لأجل أن الكلام المذكور لا يليق إلا بهم، وهو قولهم :﴿مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ وذلك لا يليق إلا بمن يبكت ويوبخ، ولا يليق أيضاً إلا بأكابرهم، والمراد بالجمع، إما جمع المال، وإما الاجتماع والكثرة ﴿وَمَا كُنتُمْ﴾ والمراد : استكبارهم عن قبول الحق، واستكبارهم على الناس المحقين. وقرىء من الكثرة، وهذا كالدلالة على شماتة أصحاب الأعراف بوقوع أولئك المخاطبين في العقاب، وعلى تبكيت عظيم يحصل لأولئك المخاطبين بسبب هذا الكلام، ثم زادوا على هذا التبكيت، وهو قولهم :﴿تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَـا ؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ﴾ فأشاروا إلى فريق من أهل الجنة، كانوا يستضعفونهم ويستقلون أحوالهم، وربما هزؤوا بهم، وأنفوا من مشاركتهم في دينهم، فإذا رأى من كان يدعي التقدم حصول المنزلة العالية، لمن كان مستضعفاً عنده قلق لذلك، وعظمت حسرته وندامته على ما كان منه في نفسه.
وأما قوله تعالى :﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ فقد اختلفوا فيه. فقيل هم أصحاب الأعراف، والله تعالى يقول لهم ذلك أو بعض الملائكة الذين يأمرهم الله تعالى بهذا القول. وقيل : بل يقول بعضهم لبعض. / والمراد أنه تعالى يحث أصحاب الأعراف بالدخول في الجنة، واللحوق بالمنزلة التي أعدها الله تعالى لهم، وعلى هذا التقدير فقوله :﴿أَهَـا ؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ﴾ من كلام أصحاب الأعراف. وقوله :﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ من كلام الله تعالى، ولا بد ههنا من إضمار، والتقدير : فقال الله لهم هذا كما قال :﴿يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ ﴾ (الأعراف : ١١٠) وانقطع ههنا كلام الملأ. ثم قال فرعون :﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ (الأعراف : ١١٠) فاتصل كلامه بكلامهم من غير إظهار فارق، فكذا ههنا.
جزء : ١٤ رقم الصفحة : ٢٥٢
٢٥٣


الصفحة التالية
Icon