المسألة الثانية : اليقين هو العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكاً فيه، فلذلك لا يقول القائل : تيقنت وجود نفسي، وتيقنت أن السماء فرقي لما أن العلم به غير مستدرك، ويقال ذلك في العلم / الحادث بالأمور سواء كان ذلك العلم ضرورياً أو استدلالياً، فيقول القائل : تيقنت ما أردته بهذا الكلام وإن كان قد علم مراده بالاضطرار، ويقول تيقنت أن الإله واحد وإن كان قد علمه بالاكتساب ؛ ولذلك لا يوصف الله تعالى بأنه يتيقن الأشياء.
المسألة الثالثة : أن الله تعالى مدحهم على كونهم متيقنين بالآخرة، ومعلوم أنه لا يمدح المرء بأن يتيقن وجود الآخرة فقط، بل لا يستحق المدح إلا إذا تيقن وجود الآخرة مع ما فيها من الحساب والسؤال وإدخال المؤمنين الجنة، والكافرين النار. روى عنه عليه السلام أنه قال :"يا عجبا كل العجب من الشاك في الله وهو يرى خلقه، وعجباً ممن يعرف النشأة الأولى ثم ينكر النشأة الآخرة، وعجباً ممن ينكر البعث والنشور وهو في كل يوم وليلة يموت ويحيا ـ يعني النوم واليقظة ـ وعجباً ممن يؤمن بالجنة وما فيها من النعيم ثم يسعى لدار الغرور، وعجباً من المتكبر الفخور وهو يعلم أن أوله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة".
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٧٧
٢٧٨
اعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في كيفية تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه ثلاثة : أحدها : أن ينوي الابتداء ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ (البقرة : ٣) وذلك لأنه لما قيل :﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة : ٢) فخص المتقين بأن الكتاب هدى لهم كان لسائل أن يسأل فيقول : ما السبب في اختصاص المتقين بذلك ؟
فوقع قوله :﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ إلى قوله :﴿وَ أولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ جواباً عن هذا السؤال، كأنه قيل : الذي يكون مشتغلاً بالإيمان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والفوز بالفلاح والنجاة لا بدّ وأن يكون على هدى من ربه. وثانيها : أن لا ينوي الابتداء به بل يجعله تابعاً ﴿لِّلْمُتَّقِينَ﴾ ثم يقع الابتداء من قوله :﴿ أولئك عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ﴾ كأنه قيل أي سبب في أن صار الموصوفون بهذه الصفات مختصين بالهدى ؟
فأجيب بأن أولئك الموصفين غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلاً وبالفلاح آجلاً. وثالثها : أن يجعل الموصول الأول صفة ﴿الْمُتَّقِينَ﴾ ويرفع الثاني على الابتداء و﴿أُوالَـا ئِكَ﴾ خبره ويكون المراد جعل اختصاصهم بالفلاح والهدى تعريضاً بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون أنهم ينالون الفلاح عند الله تعالى.
المسألة الثانية : معنى الاستعلاء في قوله :﴿عَلَى هُدًى﴾ بيان لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه حيث شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه ونظيره "فلان على الحق، أو على الباطل" وقد صرحوا به في قولهم :"جعل الغواية مركباً، وامتطى الجهل" وتحقيق القول في كونهم على الهدى تمسكهم بموجب الدليل، لأن الواجب على المتمسك بالدليل أن يدوم على ذلك ويحرسه / عن المطاعن والشبه فكأنه تعالى ومدحهم بالإيمان بما أنزل عليه أولاً، مدحهم بالإقامة على ذلك والمواظبة على حراسته عن الشبه ثانياً، وذلك واجب على المكلف، لأنه إذا كان متشدداً في الدين خائفاً وجلا فلا بدّ من أن يحاسب نفسه في علمه وعمله، ويتأمل حاله فيهما فإذا حرس نفسه عن الإخلال كان ممدوحاً بأنه على هدى وبصيرة، وإنما نكر ﴿هُدَى﴾ ليفيد ضرباً مبهماً لا يبلغ كنهه ولا يقدر قدره كما يقال لو أبصرت فلاناً لأبصرت رجلاً. قال عون بن عبد الله : الهدى من الله كثير، ولا يبصره إلا بصير، ولا يعمل به إلا يسير. ألا ترى أن نجوم السماء يبصرها البصراء، ولا يهتدى بها إلا العلماء.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٧٨
المسألة الثالثة : في تكرير ﴿أُوالَـا ئِكَ﴾ تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى ثبت لهم الاختصاص بالفلاح أيضاً، فقد تميزوا عن غيرهم بهذين الاختصاصين. فإن قيل : فلم جاء مع العاطف وما الفرق بينه وبين قوله :﴿ أولئك كَالانْعَـامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّا أولئك هُمُ الْغَـافِلُونَ﴾ (الأعراف : ١٧٩) قلنا : قد اختلف الخبران هنا فلذلك دخل العاطف بخلاف الخبرين ثمت فإنهمامتفقان لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم شيء واحد، وكانت الجملة الثانية مقررة لما في الأولى فهي من العطف بمعزل.
المسألة الرابعة :﴿هُمْ﴾ فصل وله فائدتان : إحداهما : الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة وثانيتهما : حصر الخبر في المبتدأ، فإنك لو قلت الإنسان ضاحك فهذا لا يفيد أن الضاحكية لا تحصل إلا في الإنسان، أما لو قلت : الإنسان هو الضاحك فهذا يفيد أن الضاحكية لا تحصل إلا في الإنسان.


الصفحة التالية
Icon