أن قوله :﴿وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ المراد من المغفرة أن يتجاوز الله عن سيئاتهم ومن الرزق الكريم نعيم الجنة. قال المتكلمون : أما كونه رزقاً كريماً فهو إشارة إلى كون تلك المنافع خالصة دائمة مقرونة بالأكرام والتعظيم، ومجموع ذلك هو حد الثواب. وقال العارفون : المراد من المغفرة إزالة الظلمات الحاصلة بسبب الاشتغال بغير الله، ومن الرزق الكريم الأنوار الحاصلة بسبب الاستغراق في معرفة الله ومحبته. قال الواحدي : قال أهل اللغة : الكريم اسم جامع لكل ما يحمد ويستحسن، والكريم المحمود فيما يحتاج إليه، والله تعالى موصوف بأنه كريم والقرآن موصوف بأنه كريم. قال تعالى :﴿إِنِّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَـابٌ كَرِيمٌ﴾ (النمل : ٢٩) وقال :﴿مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ (الشعراء : ٧ لقمان : ١٠) وقال :﴿وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلا كَرِيمًا﴾ (النساء : ٣١) وقال :﴿وَقُل لَّهُمَا قَوْلا كَرِيمًا﴾ (الإسراء : ٢٣) فالرزق الكريم هو الشريف الفاضل الحسن. وقال هشام بن عروة : يعني ما أعد الله لهم في الجنة من لذيذ المآكل والمشارب وهناء العيش، وأقول يجب ههنا أن نبين أن اللذات الروحانية أكمل من اللذات الجسمانية، وقد ذكرنا هذا المعنى في هذا الكتاب في مواضع كثيرة وعند هذا يظهر أن الرزق الكريم هو اللذات الروحانية وهي معرفة الله ومحبته والاستغراق في عبوديته.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٥٦
فإن قال قائل : ظاهر الآية يدل على أن الموصوف بالأمور الخمسة محكوم عليه بالنجاة من العقاب وبالفوز بالثواب، وذلك يقتضي أن لا تكليف على العبد فيما سوى هذه الخمسة وذلك باطل بإجماع المسلمين، لأنه لا بد من الصوم والحج وأداء سائر الواجبات.
قلنا : إنه تعالى بدأ بقوله :﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَـاتُه زَادَتْهُمْ إِيمَـانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ وجميع التكاليف داخل تحت هذين الكلامين، إلا أنه تعالى خص من الصفات الباطنة التوكل بالذكر على التعيين، ومن الأعمال الظاهرة الصلاة والزكاة على التعيين، تنبيهاً على أن أشرف الأحوال الباطنة، التوكل وأشرف الأعمال الظاهرة، الصلاة والزكاة.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٥٦
٤٥٧
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن قوله :﴿كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ﴾ يقتضي تشبيه شيء بهذا الإخراج وذكروا فيه وجوهاً : الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما رأى كثرة المشركين يوم بدر وقلة المسلمين قال :"من قتل قتيلاً فله سلبه ومن أسر أسيراً فله كذا وكذا" ليرغبهم في القتال، فلما انهزم المشركون قال سعد بن عبادة : يا رسول الله إن جماعة من أصحابك وقومك فدوك بأنفسهم، ولم يتأخروا عن القتال جبناً ولا بخلاً ببذل مهجهم ولكنهم أشفقوا عليك من أن تغتال فمتى أعطيت هؤلاء ما سميته لهم بقي خلق من المسلمين بغير شيء فأنزل الله تعالى :﴿يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الانفَالِا قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ يصنع فيها ما يشاء، فأمسك المسلمون عن الطلب وفي أنفس بعضهم شيء من الكراهية وأيضاً حين خرج الرسول صلى الله عليه وسلّم إلى القتال يوم بدر كانوا كارهين لتلك المقاتلة على ما سنشرح حالة تلك الكراهية، فلما قال تعالى :﴿قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ كان التقدير أنهم رضوا بهذا الحكم في الأنفال وإن كانوا كارهين له كما أخرجك ربك من بيتك بالحق إلى القتال وإن كانوا كارهين له وهذا الوجه أحسن الوجوه المذكورة هنا. الثاني : أن يكون التقدير ثبت الحكم بأن الأنفال لله، وإن كرهوه كما ثبت حكم الله بإخراجك إلى القتال وإن كرهوه. الثالث : لما قال :﴿ أولئك هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ﴾ كان التقدير : أن الحكم بكونهم مؤمنين حق، كما أن حكم الله بإخراجك من بيتك للقتال حق. الرابع : قال الكسائي :"الكاف" متعلق بما بعده، وهو قوله :﴿يُجَـادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ﴾ والتقدير ﴿كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنا بَيْتِكَ بِالْحَقِّ﴾ على كره فريق من المؤمنين كذلك هم يكرهون القتال ويجادلونك فيه. والله أعلم.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٥٧


الصفحة التالية
Icon