ثم قال :﴿وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ يعني الأطراف من اليدين والرجلين، ثم اختلفوا فمنهم من قال المراد أن يضربوهم كما شاؤوا، لأن ما فوق العنق هو الرأس، وهو أشرف الأعضاء، والبنان عبارة عن أضعف الأعضاء، فذكر الأشرف والأخس تنبيهاً على كل الأعضاء، ومنهم من قال : بل المراد إما القتل، وهو ضرب ما فوق الأعناق أو قطع البنان، لأن الأصابع هي الآلات في أخذ السيوف والرماح وسائر الأسلحة، فإذا قطع بنانهم عجزوا عن المحاربة.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الوجوه الكثيرة من النعم على المسلمين. قال :﴿ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَه ﴾ والمعنى : أنه تعالى ألقاهم في الخزي والنكال من هذه الوجوه الكثيرة بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله. قال الزجاج :﴿شَآقُّوا ﴾ جانبوا، وصاروا في شق غير شق المؤمنين، والشق الجانب ﴿وَشَآقُّوا الرَّسُولَ مِنا بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ﴾ مجاز، والمعنى : شاقوا أولياء الله، ودين الله.
ثم قال :﴿وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَه فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ يعني أن هذا الذي نزل بهم في ذلك اليوم شيء قليل مما أعده الله لهم من العقاب في القيامة، والمقصود منه الزجر عن الكفر والتهديد عليه.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٦٤
٤٦٤
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال الزجاج :﴿ذَالِكُمْ﴾ رفع لكونه خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير : الأمر ذلكم فذوقوه، ولا يجوز أن يكون ﴿ذَالِكُمْ﴾ ابتداء، وقوله :﴿فَذُوقُوهُ﴾ خبر، لأن ما بعد الفاء لا يكون خبراً للمبتدأ، إلا أن يكون المبتدأ اسماً موصولاً أو نكرة موصوفة، نحو : الذي يأتيني فله درهم، وكل رجل في الدار فمكرم. أما أن يقال : زيد فمنطلق، فلا يجوز إلا أن نجعل زيداً خبراً لمبتدأ محذوف، والتقدير : هذا زيد فمنطلق، أي فهو منطلق.
المسألة الثانية : أنه تعالى لما بين أن من يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب، بين من بعد ذلك صفة عقابه، وأنه قد يكون معجلاً في الدنيا، وقد يكون مؤجلاً في الآخرة، ونبه بقوله :﴿ذَالِكُمْ فَذُوقُوهُ﴾ وهو المعجل من القتل والأسر على أن ذلك يسير بالإضافة إلى المؤجل لهم في الآخرة، فلذلك سماه ذوقاً، لأن الذوق لا يكون إلا تعرف طعم اليسير ليعرف به حال الكثير، فعاجل ما حصل لهم من الآلام في الدنيا كالذوق القليل بالنسبة إلى الأمر العظيم المعد لهم في الآخرة، وقوله :﴿فَذُوقُوهُ﴾ يدل على أن الذوق يحصل بطريق آخر سوى إدراك الطعوم المخصوصة، وهي كقوله تعالى :﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ (الدخان : ٤٩) وكان عليه السلام يقول :"أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" فهذا يدل على إثبات الذوق والأكل والشرب بطريق روحاني مغاير للطريق الجسماني.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٦٤
٤٦٦
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال الأزهري : أصل الزحف للصبي، وهو أن يزحف على أسته قبل أن يقوم، وشبه بزحف الصبي مشي الطائفتين اللتين تذهب كل واحدة منهما إلى صاحبتها للقتال، فيمشي كل فئة مشياً رويداً إلى الفئة الأخرى قبل التداني للضراب. قال ثعلب : الزحف المشي قليلاً قليلاً إلى الشيء، ومنه الزحاف في الشعر يسقط مما بين حرفين. حرف فيزحف أحدهما إلى الآخر.
إذا عرفت هذا فنقول : قوله :﴿إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا﴾ أي متزاحفين نصب على الحال، ويجوز أن يكون حالاً للكفار، ويجوز أن يكون حالاً للمخاطبين وهم المؤمنون، والزحف مصدر موصوف به كالعدل والرضا، ولذلك لم يجمع، والمعنى : إذا ذهبتم إليهم للقتال، فلا تنهزموا، ومعنى ﴿فَلا تُوَلُّوهُمُ الادْبَارَ﴾ أي لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم. ثم إنه تعالى لما نهى عن هذا الانهزام بين أن هذا الانهزام محرم إلا في حالتين : إحداهما : أن يكون متحرفاً للقتال، والمراد منه أن يخيل إلى عدوه أنه منهزم. ثم ينعطف عليه، وهو أحد أبواب خدع الحرب ومكايدها، يقال : تحرف وانحرف إذا زال عن جهة الاستواء. والثانية : قوله :﴿أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ﴾ قال أبو عبيدة : التحيز التنحي وفيه لغتان : التحيز والتحوز. قال الواحدي : وأصل هذا الحوز، وهو الجمع. يقال : حزته فانحاز وتحوز وتحيز إذا انضم واجتمع، ثم سمى التنحي تحيزاً، لأن المتنحى عن جانب ينفصل عنه ويميل إلى غيره.
إذا عرفت هذا فنقول : الفئة الجماعة، فإذا كان هذا المتحيز كالمنفرد، وفي الكفار كثرة، وغلب على ظن ذلك المنفرد أنه إن ثبت قتل من غير فائدة، وإن تحيز إلى جمع كان راجياً للخلاص، وطامعاً في العدو بالكثرة، فربما وجب عليه التحيز إلى هذه الفئة فضلاً عن أن يكون ذلك جائزاً / والحاصل أن الانهزام من العدو حرام إلا في هاتين الحالتين.
ثم إنه تعالى قال :﴿وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَـاـاِذٍ دُبُرَه ﴾ إلا في هاتين الحالتين، فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير.


الصفحة التالية
Icon