والقول الثاني : أنه خطاب للمؤمنين، روي أنه عليه السلام لما رأى المشركين وكثرة عددهم استغاث بالله، وكذلك الصحابة وطلب ما وعده الله به من إحدى الطائفتين وتضرع إلى الله فقال :﴿إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ ﴾ والمراد أنه طلب النصرة التي تقدم بها الوعد، فقد جاءكم الفتح، أي حصل ما وعدتم به فاشكروا الله والزموا طاعته. قال القاضي : وهذا القول أولى لأن قوله :﴿فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ ﴾ لا يليق إلا بالمؤمنين، أما لو حملنا الفتح على البيات والحكم والقضاء، لم يمتنع أن يراد به الكفار.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٦٩
أما قوله :﴿وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ فتفسير هذه الآية، يتفرع على ما ذكرنا من أن قوله :﴿إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ ﴾ خطاب للكفار أو للمؤمنين.
فإن قلنا : إن ذلك خطاب للكفار، كان تأويل هذه الآية إن تنتهوا عن قتال الرسول وعداوته وتكذيبه فهو خير لكم، أما في الدين فبالخلاص من العقاب والفوز بالثواب. وأما في الدنيا فبالخلاص من القتل والأسر والنهب.
ثم قال :﴿وَإِن تَعُودُوا ﴾ أي إلى القتال ﴿نَعُدْ﴾ أي نسلطهم عليكم، فقد شاهدتم ذلك يوم بدر وعرفتم تأثير نصرة الله للمؤمنين عليكم ﴿وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ﴾ أي كثرة الجموع كما لم يغن ذلك يوم بدر. وأما إن قلنا إن ذلك خطاب للمؤمنين كان تأويل هذه الآية وإن تنتهوا عن المنازعة في أمر الأنفال وتنتهوا عن طلب الفداء على الأسرى فقد كان وقع منهم نزاع يوم بدر في هذه الآشياء حتى عاتبهم الله بقوله :﴿لَّوْلا كِتَـابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ (الأنفال : ٦٨) فقال تعالى :﴿وَإِن تَنتَهُوا ﴾ عن مثله ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُم وَإِن تَعُودُوا ﴾ إلى تلك المنازعات ﴿نَعُدْ﴾ إلى ترك نصرتكم لأن الوعد بنصرتكم مشروط بشرط استمراركم على الطاعة وترك المخالفة/ ثم لا تنفعكم الفئة والكثرة، فإن الله لا يكون إلا مع المؤمنين الذين لا يرتكبون الذنوب.
واعلم أن أكثر المفسرين حملوا قوله :﴿إِن تَسْتَفْتِحُوا ﴾ على أنه خطاب للكفار، واحتجوا بقوله تعالى :﴿وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ﴾ فظنوا أن ذلك لا يليق إلا بالقتال، وقد بينا أن ذلك يحتمل الحمل على ما ذكرناه من أحوال المؤمنين، فسقط هذا الترجيح.
وأما قوله :﴿وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ﴾ فقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم ﴿الارْضِ وَأَنَّ اللَّهَ﴾ بفتح الألف في أن والباقون بكسرها. أما الفتح فقيل : على تقدير، ولأن الله مع المؤمنين، وقيل هو معطوف على قوله :﴿وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَـافِرِينَ﴾ وأما الكسر فعلى الابتداء. والله أعلم.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٦٩
٤٧١
اعلم أنه تعالى لما خاطب المؤمنين بقوله :﴿وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُم وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْـاًا﴾ (الأنفال : ١٩) أتبعه بتأديبهم فقال :﴿الْمُؤْمِنِينَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَه وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ﴾ ولم يبين أنهم ماذا يسمعون إلا أن الكلام من أول السورة إلى هنا لما كان واقعاً في الجهاد علم أن المراد وأنتم تسمعون دعاءه إلى الجهاد، ثم إن الجهاد اشتمل على أمرين : أحدهما : المخاطرة بالنفس. والثاني : الفوز بالأموال، ولما كانت المخاطرة بالنفس شاقة شديدة على كل أحد، وكان ترك المال بعد القدرة على أخذه شاقاً شديداً، لا جرم بالغ الله تعالى في التأديب في هذا الباب فقال :﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَه ﴾ في الإجابة إلى الجهاد، وفي الإجابة إلى تركه المال إذا أمره الله بتركه والمقصود تقرير ما ذكرناه في تفسير قوله تعالى :﴿قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ (الأنفال : ١).
فإن قيل : فلم قال ولا تولوا عنه فجعل الكناية واحدة مع أنه تقدم ذكر الله ورسوله.
قلنا : إنه تعالى أمر بطاعة الله وبطاعة رسوله. ثم قال :﴿وَلا تَوَلَّوْا ﴾ لأن التولي إنما يصح في حق الرسول بأن يعرضوا عنه وعن قبول قوله وعن معونته في الجهاد.
ثم قال مؤكداً لذلك :﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ﴾ والمعنى : أن الإنسان / لا يمكنه أن يقبل التكليف وأن يلتزمه إلا بعد أن يسمعه، فجعل السماع كناية عن القبول. ومنه قولهم سمع الله لمن حمده، والمعنى : ولا تكونوا كالذين يقولون بألسنتهم أنا قبلنا تكاليف الله تعالى، ثم إنهم بقلوبهم لا يقبلونها. وهو صفة للمنافقين كما أخبر الله عنهم بقوله :﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَـاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ﴾ (البقرة : ١٤).
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٧١


الصفحة التالية
Icon