المسألة الأولى : اختلفوا في المراد بتلك الخيانة على أقوال : الأول : قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في أبي لبابة حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى قريظة لما حاصرهم، وكان أهله وولد فيهم. فقالوا يا أبا لبابة ما ترى لنا أننزل على حكم سعد بن معاد فينا ؟
فأشار أبو لبابة إلى حلقه، أي أنه الذبح فلا تفعلوا، فكان ذلك منه خيانة لله ورسوله. الثاني : قال السدي : كانوا يسمعون الشيء من النبي صلى الله عليه وسلّم، فيشقونه ويلقونه إلى المشركين، فنهاهم الله عن ذلك. الثالث : قال ابن زيد : نهاهم الله أن يخونوا كما صنع المنافقون، يظهرون الإيمان ويسرون الكفر. الرابع : عن جابر بن عبد الله : أن أبا سفيان خرج من مكة، فعلم النبي صلى الله عليه وسلّم خروجه وعزم على الذهاب إليه، فكتب إليه رجل من المنافقين أن محمداً يريدكم فخذوا حذركم، فأنزل الله هذه الآية. الخامس : قال الزهري والكلبي : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة لما هم النبي صلى الله عليه وسلّم بالخروج إليها، حكاه الأصم. والسادس : قال القاضي : الأقرب أن خيانة الله غير خيانة رسوله، وخيانة الرسول غير خيانة الأمانة، لأن العطف يقتضي المغايرة.
إذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى أمرهم أن لا يخونوا الغنائم، وجعل ذلك خيانة له، لأنه خيانة لعطيته وخيانة لرسوله لأنه القيم بقسمها، فمن خانها فقد خان الرسول، وهذه الغنيمة قد جعلها الرسول أمانة في أيدي الغانمين وألزمهم أن لا يتناولوا لأنفسهم منها شيئاً فصارت وديعة، والوديعة / أمانة في يد المودع، فمن خان منهم فيها فقد خان أمانة الناس، إذ الخيانة ضد الأمانة، قال : ويحتمل أن يريد بالأمانة كل ما تعبد به، وعلى هذا التقدير : فيدخل فيه الغنيمة وغيرها، فكان معنى الآية : إيجاب أداء التكاليف بأسرها على سبيل التمام والكمال من غير نقص ولا إخلال. وأما الوجوه المذكورة في سبب نزول الآية، فهي داخلة فيها، لكن لا يجب قصر الآية عليها، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٧٦
المسألة الثانية : قال صاحب "الكشاف" : معنى الخون النقص. كما أن معنى الوفاء التمام. ومنه تخونه إذا انتقصه، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء. لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه.
المسألة الثالثة : في قوله :﴿وَتَخُونُوا أَمَـانَـاتِكُمْ﴾ وجوه : الأول : التقدير ﴿لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَـانَـاتِكُمْ﴾ والدليل عليه ما روي في حرف عبد الله ﴿لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَـانَـاتِكُمْ﴾ الثاني : التقدير : لا تخونوا الله والرسول، فإنكم إن فعلتم ذلك فقد خنتم أماناتكم، والعرب قد تذكر الجواب تارة بالفاء، وأخرى بالواو، ومنهم من أنكر ذلك.
وأما قوله تعالى :﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ فيه وجوه : الأول : وأنتم تعلمون أنكم تخونون يعني أن الخيانة توجد منكم عن تعمد لا عن سهو. الثاني : وأنتم علماء تعلمون قبح القبيح، وحسن الحسن، ثم إنه لما كان الداعي إلى الإقدام على الخيانة هو حب الأموال والأولاد. نبه تعالى على أنه يجب على العاقل أن يحترز عن المضار المتولدة من ذلك الحب. فقال :﴿أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَـادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ لأنها تشغل القلب بالدنيا/ وتصير حجاباً عن خدمة المولى.
ثم قال :﴿وَأَنَّ اللَّهَ عِندَه ا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ تنبيهاً على أن سعادات الآخرة خير من سعادات الدنيا لأنها أعظم في الشرف، وأعظم في الفوز، وأعظم في المدة، لأنها تبقى بقاء لا نهاية له، فهذا هو المراد من وصف الله الأجر الذي عنده بالعظم. ويمكن أن يتمسك بهذه الآية في بيان أن الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالنكاح لأن الاشتغال بالنوافل يفيد الأجر العظيم عند الله، والاشتغال بالنكاح يفيد الولد ويوجب الحاجة إلى المال، وذلك فتنة، ومعلوم أن ما أفضى إلى الأجر العظيم عند الله، فالاشتغال به خير مما أفضى إلى الفتنة.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٧٦
٤٧٧
واعلم أنه تعالى لما حذر عن الفتنة بالأموال والأولاد، رغب في التقوى التي توجب ترك الميل والهوى في محبة الأموال والأولاد. وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : لقائل أن يقول : إدخال الشرط في الحكم إنما يحسن في حق من كان جاهلاً بعواقب الأمور، وذلك لا يليق بالله تعالى.
والجواب : أن قولنا إن كان كذا كان كذا، لا يفيد إلا كون الشرط مستلزماً للجزاء، فأما أن وقوع الشرط مشكوك فيه أو معلوم فذلك غير مستفاد من هذا اللفظ، سلمنا أنه يفيد هذا الشك إلا أنه تعالى يعامل العباد في الجزاء معاملة الشاك، وعليه يخرج قوله تعالى :﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَـاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّـابِرِينَ﴾ (محمد : ٣١).


الصفحة التالية
Icon