﴿بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ * فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظ ﴾ (البروج : ٢٢) فقال له أخبرني عن ﴿تُبْتُ﴾ أكانت في اللوح المحفوظ ؟
فقال عمرو : ليس هكذا كانت، بل كانت : تبت يدا من عمل بمثل ما عمل أبو لهب فقال له الرجل، هكذا ينبغي أن تقرأ إذا قمنا إلى الصلاة : فغضب عمرو وقال : إن علم الله ليس بشيطان، إن علم الله لا يضر ولا ينفع. وهذه الحكاية تدل على شك عمرو بن عبيد في صحة القرآن. وثانيها : روى القاضي في كتاب طبقات المعتزلة عن ابن عمر، أن رجلاً قام إليه فقال : يا أبا عبد الرحمن أن أقواماً يزنون ويسرقون ويشربون الخمر ويقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ويقولون كان ذلك في علم الله فلم نجد منه بداً، فغضب ثم قال سبحان الله العظيم، قد كان في علمه أنهم يفعلونها فلم يحملهم على الله على فعلها. حدثني أبي عمر بن الخطاب أنه سمع رسول صلى الله عليه وسلّم يقول : مثل علم الله فيكم كمثل السماء التي أظلتكم، والأرض التي أقلتكم، فكما لا تستطيعون الخروج من السماء والأرض فكذلك لا تستطيعون الخروج من علم الله تعالى، وكما لا تحملكم السماء والأرض على الذنوب فكذلك لا يحملكم علم الله تعالى عليها. واعلم أن في الأخبار التي يرويها الجبرية والقدرية كثرة، والغرض من رواية هذا الحديث بيان أنه لا يليق بالرسول أن يقول مثل ذلك، وذلك لأنه متناقض وفاسد، أما المتناقض فلأن قوله :"وكذلك لا تستطيعون الخروج من علم الله" صريح في الجبر وما قبله صريح في القدر فهو متناقض، وأما أنه فاسد، فلأنا بينا أن العلم بعدم الإيمان ووجود الإيمان متنافيان، فالتكليف بالإيمان مع وجود العلم بعدم الإيمان تكليف بالجمع بين النفي والإثبات، أما السماء والأرض فإنهما لا ينافيان شيئاً من الأعمال، فظهر أن تشبيه إحدى الصورتين بالأخرى لا يصدر إلا عن جاهل أو متجاهل، وجل منصب الرسالة عنه. وثالثها : الحديثان المشهوران في هذا الباب : أما الحديث الأول : فهو ما روي في الصحيحين عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو الصادق المصدوق :"إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك/ ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه ملكاً فينفخ فيه الروح فيؤمر بأربع كلمات، فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" وحكى الخطيب في تاريخ بغداد عن عمرو بن عبيد / أنه قال : لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته، ولو سمعت زيد بن وهب يقول هذا ما أحببته، ولو سمعت عبد الله بن مسعود يقول هذا ما قبلته، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله عزّ وجلّ يقول هذا لقلت ليس على هذا أخذت ميثاقنا. وأما الحديث الثاني : فهو مناظرة آدم وموسى عليهما السلام، فإن موسى قال لآدم : أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة ؟
فقال آدم : أنت الذي اصطفاك الله لرسالاته ولكلامه وأنزل عليك التوراة فهل تجد الله قدره على ؟
قال نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم فحج آدم موسى، والمعتزلة طعنوا فيه من وجوه : أحدها : أن هذا الخبر يقتضي أن يكون موسى قد ذم آذم على الصغيرة وذلك يقتضي الجهل في حق موسى عليه السلام، وأنه غير جائز. وثانيها : أن الولد كيف يشافه والده بالقول الغليظ. وثالثها : أنه قال : أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة، وقد علم موسى أن شقاء الخلق وإخراجهم من الجنة لم يكن من جهة آدم، بل الله أخرجه منها، ورابعها : أن آدم عليه السلام احتج بما ليس بحجة إذ لو كن حجة لكان لفرعون وهامان وسائر الكفار أن يحتجوا بها، ولما بطل ذلك علمنا فساد هذه الحجة. وخامسها : أن الرسول عليه السلام صوب آدم في ذلك مع أنا بينا أنه ليس بصواب. إذا ثبت هذا وجب حمل الحديث على أحد ثلاثة أوجه. أحدها : أنه عليه السلام حكى ذلك عن اليهود لا أنه حكاه عن الله تعالى أو عن نفسه، والرسول عليه السلام كان قد ذكر هذه الحكاية إلا أن الراوي حين دخل ما سمع إلا هذا الكلام، فظن أنه عليه السلام ذكره عن نفسه لا عن اليهود. وثانيها : أنه قال : فحج آدم منصوباً أي أن موسى عليه السلام غلبه وجعله محجوباً وأن الذي أتى به آدم ليس بحجة ولا بعذر. وثالثها : وهو المعتمد أنه ليس المراد من المناظرة الذم على المعصية، ولا الاعتذار منه بعلم الله بل موسى عليه السلام سأله عن السبب الذي حمله على تلك الزلة حتى خرج بسببها من الجنة، فقال آدم : إن خروجي من الجنة لم يكن بسبب تلك الزلة، بل بسبب أن الله تعالى كان قد كتب عليّ أن أخرج من الجنة إلى الأرض وأكون خليفة فيها، وهذا المعنى كان مكتوباً في التوراة، فلا جرم كانت حجة آدم قوية وصار موسى عليه السلام في ذلك


الصفحة التالية
Icon