قلنا : أحكام الشرع مبنية على الظواهر، كما قال عليه السلام :"نحن نحكم بالظاهر" فلما رجع وجب قبول قوله فيه. الثاني : لا شك أنه مكلف بالرجوع ولا طريق له إليه إلا بهذه التوبة فلو لم تقبل لزم تكليف ما لا يطاق. الثالث : قوله تعالى :﴿وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِه وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّـاَاتِ﴾ (الشورى : ٢٥).
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٨٣
المسألة الرابعة : احتج أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشرائع، قالوا لأنهم لو كانوا مخاطبين بها، لكان إما أن يكونوا مخاطبين بها مع الكفر أو بعد زوال الكفر. والأول باطل بالإجماع، والثاني باطل ؛ لأن هذه الآية تدل على أن الكافر بعد الإسلام لا يؤاخذ بشيء مما مر عليه في زمان الكفر وإيجاب قضاء تلك العبادات ينافي ظاهره هذه الآية.
المسألة الخامسة : احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية على أن المرتد إذا أسلم لم يلزمه قضاء / العبادات التي تركها في حالة الردة وقبلها، ووجه الدلالة ظاهر.
المسألة السادسة : قال عليه السلام :"الإسلام يجب ما قبله" فإذا أسلم الكافر لم يلزمه قضاء شيء من العبادات البدنية والمالية وما كان له من جناية على نفس أو مال فهو معفو عنه وهو ساعة إسلامه كيوم ولدته أمه. وقال يحيى بن معاذ الرازي في هذه الآية أن توحيد ساعة يهدم كفر سبعين سنة، وتوحيد سبعين سنة كيف لا يقوى على هدم ذنب ساعة ؟
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٨٣
٤٨٤
اعلم أنه تعالى لما بين أن هؤلاء الكفار إن انتهوا عن كفرهم حصل لهم الغفران، وإن عادوا فهم متوعدون بسنة الأولين، أتبعه بأن أمر بقتالهم إذا أصروا فقال :﴿وَقَـاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ قال عروة بن الزبير : كان المؤمنون في مبدأ الدعوة يفتنون عن دين الله، فافتتن من المسلمين بعضهم وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم المسلمين أن يخرجوا إلى الحبشة، وفتنة ثانية وهو أنه لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلّم بيعة العقبة، توامرت قريش أن يفتنوا المؤمنين بمكة عن دينهم، فأصاب المؤمنين جهد شديد، فهذا هو المراد من الفتنة، فأمر الله تعالى بقتالهم حتى تزول هذه الفتنة. وفيه وجه آخر، وهو أن مبالغة الناس في حبهم أديانهم أشد من مبالغتهم في حبهم أرواحهم، فالكافر أبداً يسعى بأعظم وجوه السعي في إيذاء المؤمنين وفي إلقاء الشبهات في قلوبهم وفي إلقائهم في وجوه المحنة والمشقة، وإذا وقعت المقاتلة زال الكفر والمشقة، وخلص الإسلام وزالت تلك الفتن بالكلية. قال القاضي : إنه تعالى أمر بقتالهم ثم بين العلة التي بها أوجب قتالهم، فقال :﴿حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ ويخلص الدين الذي هو دين الله من سائر الأديان، وإنما يحصل هذا المقصود إذا زال الكفر بالكلية. إذا عرفت هذا فنقول : إما أن يكون المراد من الآية ﴿وَقَـاتِلُوهُمْ﴾ لأجل أن يحصل هذا المعنى أو يكون المراد ﴿وَقَـاتِلُوهُمْ﴾ لغرض أن يحصل هذا المعنى فإن كان المراد من الآية هو الأول وجب أن يحصل هذا المعنى من القتال فوجب أن يكون المراد / ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّه لِلَّه ﴾ في أرض مكة وما حواليها، لأن المقصود حصل هنا، قال عليه السلام :"لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" ولا يمكن حمله على جميع البلاد، إذ لوكان ذلك مراداً لما بقي الكفر فيها مع حصول القتال الذي أمر الله به، وأما إذا كان المراد من الآية هو الثاني، وهو قوله : قاتلوهم لغرض أن يكون الدين كله لله، فعلى هذا التقدير لم يمتنع حمله على إزالة الكفر عن جميع العالم لأنه ليس كل ما كان غرضاً للإنسان، فإنه يحصل، فكان المراد الأمر بالقتال لحصول هذا الغرض سواء حصل في نفس الأمر أو لم يحصل.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٨٤
ثم قال :﴿فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ والمعنى ﴿فَإِنِ انتَهَوْا ﴾ عن الكفر وسائر المعاصي بالتوبة والإيمان ﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ عالم لا يخفى عليه شيء يوصل إليهم ثوابهم ﴿وَإِن تَوَلَّوْا ﴾ يعني عن التوبة والإيمان ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَـاـاكُمْ ﴾ أي وليكم الذي يحفظكم ويرفع البلاء عنكم، ثم بين أنه تعالى ﴿نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ وكل ما كان في حماية هذا المولى وفي حفظه وكفايته، كان آمناً من الآفات مصوناً عن المخوفات.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٨٤
٤٨٦
اعلم أنه تعالى لما أمر بالمقاتلة في قوله :﴿وَقَـاتِلُوهُمْ﴾ وكان من المعلوم أن عند المقاتلة قد تحصل الغنيمة، لا جرم ذكر الله تعالى حكم الغنيمة، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : الغنم : الفوز بالشيء، يقال : غنم يغنم غنماً فهو غانم، والغنيمة في الشريعة ما دخلت في أيدي المسلمين من أموال المشركين على سبيل القهر بالخيل والركاب.


الصفحة التالية
Icon