المسألة الرابعة : قوله :﴿وَيَحْيَى مَنْ حَىَّ عَنا بَيِّنَةٍ ﴾ قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم والبزي عن ابن كثير ونصير عن الكسائي ﴿مِّنَ﴾ بإظهار الياءين وأبو عمرو، وابن كثير برواية القواس، وابن عامر وحفص عن عاصم والكسائي بياء مشددة على الإدغام. فأما الإدغام فللزوم الحركة في الثاني، فجرى مجرى رد لأنه في المصحف مكتوب بياء واحدة. وأما الإظهار فلامتناع الإدغام في مضارعه من "يحيى" فجرى على مشاكلته، وأجاز بعض الكوفيين الإدغام في ﴿وَلا يَحْيَى ﴾.
ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله :﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي يسمع دعاءكم ويعلم حاجتكم وضعفكم، فأصلح مهمكم.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٨٧
٤٨٨
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من التي أنعم الله بها على أهل بدر، وفيه مسألتان :
المسألة الأولى :﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ﴾ منصوب بإضمار اذكر، أو هو بدل ثان من يوم الفرقان أو متعلق بقوله :﴿لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي يعلم المصالح إذ يقللهم في أعينكم.
المسألة الثانية : قال مجاهد : أرى الله النبي عليه السلام كفار قريش في منامه قليلاً فأخبر بذلك أصحابه. فقالوا : رؤيا النبي حق، القوم قليل، فصار ذلك سبباً لجراءتهم وقوة قلوبهم.
فإن قيل : رؤية الكثير قليلاً غلط، فكيف يجوز من الله تعالى أن يفعل ذلك ؟
قلنا : مذهبنا أنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأيضاً لعله تعالى أراه البعض دون البعض فحكم الرسول على أولئك الذين رآهم بأنهم قليلون. وعن الحسن : هذه الأراءة كانت في اليقظة. قال : والمراد من المنام العين التي هو موضع النوم.
ثم قال تعالى :﴿وَلَوْ أَرَاـاكَهُمْ كَثِيرًا﴾ لذكرته للقوم ولو سمعوا ذلك لفشلوا ولتنازعوا، ومعنى التنازع في الأمر، الاختلاف الذي يحاول به كل واحد نزع صاحبه عما هو عليه، والمعنى : لاضطرب أمركم واختلفت كلمتكم ﴿وَلَـاكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ ﴾ أي سلمكم من المخالفة فيما بينكم. وقيل : سلم الله لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوهم، وقيل سلمهم من الهزيمة يوم بدر والأظهر أن المراد، ولكن الله سلمكم من التنازع ﴿إِنَّه عَلِيمُا بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ يعلم ما يحصل فيها من الجراءة والجبن والصبر والجزع.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٨٨
٤٨٩
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من النعم التي أظهرها الله للمسلمين يوم بدر، والمراد أن القليل الذي حصل في النوم تأكد ذلك بحصوله في اليقظة. قال صاحب "الكشاف" :﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ﴾ الضميران مفعولان يعني إذ يبصركم أياهم، و﴿قَلِيلا ﴾ نصب على الحال.
واعلم أنه تعالى قلل عدد المشركين في أعين المؤمنين، وقلل أيضاً عدد المؤمنين في أعين المشركين. والحكمة في التقليل الأول، تصديق رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلّم، وأيضاً لتقوى قلوبهم وتزداد جراءتهم عليهم، والحكمة في التقليل. الثاني : أن المشركين لما استقلوا عدد المسلمين لم يبالغوا في الاستعداد والتأهب والحذر، فصار ذلك سبباً لاستيلاء المؤمنين عليهم.
فإن قيل : كيف يجوز أن يريهم الكثير قليلاً ؟
قلنا : أما على ما قلنا فذاك جائز، لأن الله تعالى خلق الإدراك في حق البعض دون البعض. وأما المعتزلة فقالوا : لعل العين منعت من إدراك الكل، أو لعل الكثير منهم كانوا في غاية البعد فما حصلت رؤيتهم.
ثم قال :﴿لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا﴾.
فإن قيل : ذكر هذا الكلام في الآية المتقدمة، فكان ذكره ههنا محض التكرار.
قلنا : المقصود من ذكره في الآية المتقدمة هو أنه تعالى فعل تلك الأفعال ليحصل استيلاء المؤمنين على المشركين على وجه يكون معجزة دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلّم. والمقصود من ذكره ههنا، ليس هو ذلك المعنى، بل المقصود أنه تعالى ذكر ههنا أنه قلل عدد المؤمنين في أعين المشركين، فبين ههنا أنه إنما فعل ذلك ليصير ذلك سبباً لئلا يبالغ الكفار في تحصيل الاستعداد والحذر، فيصير ذلك سبباً لانكسارهم.
ثم قال :﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ﴾ والغرض منه التنبيه على أن أحوال الدنيا غير مقصودة لذواتها، وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زاداً ليوم المعاد.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٨٩
٤٩١
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواع نعمه على الرسول وعلى المؤمنين يوم بدر علمهم إذا التقوا بالفئة وهي الجماعة من المحاربين نوعين من الأدب : الأول : الثبات وهو أن يوطنوا أنفسهم على اللقاء ولا يحدثوها بالتولي. والثاني : أن يذكروا الله كثيراً، وفي تفسير هذا الذكر قولان :
القول الأول : أن يكونوا بقلوبهم ذاكرين الله وبألسنتهم ذاكرين الله. قال ابن عباس : أمر الله أولياءه بذكره في أشد أحوالهم، تنبيهاً على أن الإنسان لا يجوز أن يخلى قلبه ولسانه عن ذكر الله، ولو أن رجلاً أقبل من المغرب إلى المشرق ينفق الأموال سخاء، والآخر من المشرق إلى المغرب يضرب بسيفه في سبيل الله، كان الذاكر لله أعظم أجراً.


الصفحة التالية
Icon