فإن قيل : فعلى هذا الطريق وجب أن ينهزم جميع جيوش المسلمين لأنه يتشبه بصورة البشر ويحضر ويعين جمع الكفار ويهزم جموع المسلمين، والحاصل : أنه إن قدر على هذا المعنى فلم لا يفعل ذلك في سائر وقائع المسلمين ؟
وإن لم يقدر عليه فكيف أضفتم إليه هذا العمل في واقعة بدر ؟
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٩٣
الجواب : لعله تعالى إنما غير صورته إلى صورة البشر في تلك الواقعة أما في سائر الوقائع فلا يفعل ذلك التغيير.
السؤال الثاني : أنه تعالى لما غير صورته إلى صورة البشر فما بقي شيطاناً بل صار بشراً.
الجواب أن الإنسان إنما كان إنساناً بجوهر نفسه الناطقة، ونفوس الشياطين مخالفة لنفوس البشر فلم يلزم من تغيير الصورة تغيير الحقيقة، وهذا الباب أحد الدلائل السمعية على أن الإنسان ليس إنساناً بحسب بنيته الظاهرة وصورته المخصوصة.
السؤال الثالث : ما معنى قول الشيطان ﴿لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ﴾ وما الفائدة في هذا الكلام مع أنهم كانوا كثيرين غالبين ؟
والجواب : أنهم وإن كانوا كثيرين في العدد إلا أنهم كانوا يشاهدون أن دولة محمد عليه الصلاة والسلام كل يوم في الترقي والتزايد، ولأن محمداً كلما أخبر عن شيء فقد وقع فكانوا لهذا السبب خائفين جداً من قوم محمد صلى الله عليه وسلّم، فذكر إبليس هذا الكلام إزالة للخوف عن قلوبهم/ ويحتمل أن يكون المراد أنه كان يؤمنهم من شر بني بكر بن كنانة خصوصاً وقد تصور بصورة زعيم منهم، وقال :﴿وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ﴾ والمعنى : إني إذا كنت وقومي ظهيراً لكم فلا يغلبكم أحد من الناس ومعنى الجار ههنا : الدافع عن صاحبه أنواع الضرر كما يدفع الجار عن جاره، والعرب تقول : أنا جار لك من فلان أي حافظ من مضرته فلا يصل إليك مكروه منه.
ثم قال تعالى :﴿فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ﴾ أي التقى الجمعان بحيث رأت كل واحدة الأخرى نكص على عقيبه، والنكوص الأحجام عن الشيء، والمعنى : رجع وقال : إني أرى مالا ترون، وفيه / وجوه : الأول : أنه روحاني، فرأى الملائكة فخافهم. قيل : رأى جبريل يمشي بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام. وقيل : رأى ألفاً من الملائكة مردفين. الثاني : أنه رأى أثر النصرة والظفر في حق النبي عليه الصلاة والسلام، فعلم أنه لو وقف لنزلت عليه بلية.
ثم قال :﴿إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ﴾ قال قتادة صدق في قوله :﴿إِنِّى أَرَى مَا لا تَرَوْنَ﴾ وكذب في قوله :﴿إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ﴾ وقيل لما رأى الملائكة ينزلون من السماء خاف أن يكون الوقت الذي أنظر إليه قد حضر فقال : ما قال إشفاقاً على نفسه.
أما قوله :﴿وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ فيجوز أن يكون من بقية كلام إبليس، ويجوز أن ينقطع كلامه عند قوله أخاف الله.
ثم قال تعالى بعده :﴿وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٩٣
٤٩٣
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إنما لم تدخل الواو في قوله :﴿إِذْ يَقُولُ﴾ ودخلت في قوله :﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ﴾ (الأنفال : ٤٨) لأن قوله :﴿وَإِذْ زَيَّنَ﴾ عطف على هذا التزيين على حالهم وخروجهم بطراً ورئاء، وأما هنا وهو قوله :﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَـافِقُونَ﴾ فليس فيه عطف لهذا الكلام على ما قبله بل هو كلام مبتدأ منقطع عما قبله، وعامل الإعراب في ﴿إِذِ﴾ فيه وجهان : الأول : التقدير والله شديد العقاب إذ يقول المنافقون والثاني : اذكروا إذ يقول المنافقون.
المسألة الثانية : أما المنافقون فهم قوم من الأوس والخزرج، وأما الذين في قلوبهم مرض فهم قوم من قريش أسلموا وما قوي إسلامهم في قلوبهم ولم يهاجروا. ثم إن قريشاً لما خرجوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال أولئك نخرج مع قومنا فإن كان محمد في كثرة خرجنا إليه، وإن كان في قلة أقمنا في قومنا. قال محمد بن إسحق : ثم قتل هؤلاء جميعاً مع المشركين يوم بدر. وقوله :﴿غَرَّ هَـا ؤُلاءِ دِينُهُمْ ﴾ قال ابن عباس : معناه أنه خرج بثلثمائة وثلاثة عشر يقاتلون ألف رجل، / وما ذاك إلا أنهم اعتمدوا على دينهم. وقيل المراد : إن هؤلاء يسعون في قتل أنفسهم، رجاء أن يجعلوا أحياء بعد الموت ويثابون على هذا القتل.
ثم قال تعالى :﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي ومن يسلم أمره إلى الله ويثق بفضله ويعول على إحسان الله، فإن الله حافظه وناصره، لأنه عزيز لا يغلبه شيء، حكيم يوصل العذاب إلى أعدائه، والرحمة والثواب إلى أوليائه :
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٩٣
٤٩٥
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال هؤلاء الكفار شرح أحوال موتهم، والعذاب الذي يصل إليهم في ذلك الوقت، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر وحده ﴿إِذِ﴾ بالتاء على تأنيث لفظ الملائكة والجمع، والباقون بالياء على المعنى.
المسألة الثانية : جواب ﴿عَلَيْهِمْ لَوْ﴾ محذوف. والتقدير : لرأيت منظراً هائلاً، وأمراً فظيعاً، وعذاباً شديداً.


الصفحة التالية
Icon