المسألة الثالثة : أنه تعالى ذكر مرة أخرى قوله تعالى :﴿كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ ﴾ ذكروا فيه وجوهاً كثيرة : الأول : أن الكلام الثاني يجري مجرى التفصيل للكلام الأول، لأن الكلام الأول فيه ذكر أخذهم، وفي الثاني ذكر إغراقهم وذلك تفصيل. والثاني : أنه أريد بالأول ما نزل بهم من العقوبة في حال الموت، وبالثاني ما ينزل بهم في القبر في الآخرة. الثالث : أن الكلام الأول هو قوله :﴿كَفَرُوا بِـاَايَـاتِ اللَّهِ﴾ والكلام الثاني هو قوله :﴿كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِ رَبِّهِمْ﴾ فالأول إشارة إلى أنهم أنكروا الدلائل الإلهية، والثاني إشارة إلى أنه سبحانه رباهم وأنعم عليهم بالوجوه الكثيرة، فأنكروا دلائل التربية والإحسان مع كثرتها وتواليها عليهم، فكان الأثر اللازم من الأول هو الأخذ والأثر اللازم من الثاني هو الإهلاك والإغراق، وذلك يدل على أن لكفران النعمة أثراً عظيماً في حصول الهلاك والبوار، ثم ختم تعالى الكلام بقوله :﴿وَكُلٌّ كَانُوا ظَـالِمِينَ﴾ والمراد منه أنهم كانوا ظالمي أنفسهم بالكفر والمعصية، وظالمي سائر الناس بسبب الإيذاء والإيحاش، وأن الله تعالى / إنما هلكهم بسبب ظلمهم، وأقول في هذا المقام اللهم أهلك الظالمين وطهر وجه الأرض منهم فقد عظمت فتنتهم وكثر شرهم، ولا يقدر أحد على دفعهم إلا أنت، فادفع يا قهار يا جبار يا منتقم.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٩٧
٤٩٧
اعلم أنه تعالى لما وصف كل الكفار بقوله :﴿وَكُلٌّ كَانُوا ظَـالِمِينَ﴾ أفرد بعضهم بمزية في الشر والعناد. فقال :﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِندَ اللَّهِ﴾ أي في حكمه وعلمه من حصلت له صفتان :
الصفة الأولى : الكافر الذي يكون مستمراً على كفره مصراً عليه لا يتغير عنه البتة.
الصفة الثانية : أن يكون ناقضاً للعهد على الدوام فقوله :﴿الَّذِينَ عَـاهَدتَّ مِنْهُمْ﴾ بدل من قوله :﴿الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ أي الذين عاهدت من الذين كفروا وهم شر الدواب وقوله :﴿مِنْهُمْ﴾ لتبعيض فإن المعاهدة إنما تكون مع أشرافهم وقوله :﴿ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ﴾ قال أهل المعاني إنما عطف المستقبل على الماضي، لبيان أن من شأنهم نقض العهد مرة بعد مرة. قال ابن عباس : هم قريظة فإنهم نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأعانوا عليه المشركين بالسلاح في يوم بدر، ثم قالوا : أخطأنا فعاهدهم مرة أخرى فنقضوه أيضاً يوم الخندق، وقوله :﴿وَهُمْ لا يَتَّقُونَ﴾ معناه أن عادة من رجع إلى عقل وحزم أن يتقي نقض العهد حتى يسكن الناس إلى قوله ويثقوا بكلامه، فبين تعالى أن من جمع بين الكفر الدائم وبين نقض العهد على هذا الوجه كان شر الدواب.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٤٩٧
٤٩٩
اعلم أنه تعالى تارة يرشد رسوله إلى الرفق واللطف في آيات كثيرة. منها قوله :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ﴾ (الأنبياء : ١٠٧) ومنها قوله :﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الامْرِ ﴾ (آل عمران : ١٥٩) وتارة يرشد إلى التغليظ / والتشديد كما في هذه الآية، وذلك لأنه تعالى لما ذكر الذين ينقضون عهدهم في كل مرة، بين ما يجب أن يعاملوا به فقال :﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ﴾ قال الليث : ثقفنا فلاناً في موضع كذا، أي أخذناه وظفرنا به، والتشريد عبارة عن التفريق مع الاضطراب. يقال : شرد يشرد شروداً، وشرده تشريداً، فمعنى الآية أنك إن ظفرت في الحرب بهؤلاء الكفار الذين ينقضون العهد فافعل بهم فعلاً يفرق بهم من خلفهم. قال عطاء : تثخن فيهم القتل حتى يخافك غيرهم، وقيل : نكل بهم تنكيلاً يشرد غيرهم من ناقضي العهد ﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ أي لعل من خلفهم يذكرون ذلك النكال فيمنعهم ذلك عن نقض العهد، وقرأ ابن مسعود فشرذ بالذال المنقطة من فوق بمعنى ففرق وكأنه مقلوب شذر، وقرأ أبو حيوة من خلفهم، والمعنى : فشرد تشريداً متلبساً بهم من خلفهم لأن أحد العسكرين إذا كسروا الثاني، فالكاسرون يعدون خلف المكسرين فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يشردهم في ذلك الوقت.


الصفحة التالية
Icon