جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٥٠١
٥٠٣
اعلم أنه تعالى لما أمر في الآية المتقدمة بالصلح، ذكر في هذه الآية حكماً من أحكام الصلح وهو أنهم إن صالحوا على سبيل المخادعة، وجب قبول ذلك الصلح، لأن الحكم يبنى على الظاهر لأن الصلح لا يكون أقوى حالاً من الإيمان، فلما بنينا أمر الإيمان عن الظاهر لا على الباطن، فههنا أولى ولذلك قال :﴿وَإِن يُرِيدُوا ﴾ المراد من تقدم ذكره في قوله :﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ﴾.
فإن قيل : أليس قال :﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانابِذْ إِلَيْهِمْ﴾ أي أظهر نقض ذلك العهد، وهذا يناقض ما ذكره في هذه الآية ؟
قلنا : قوله :﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً﴾ محمول على ما إذا تأكد ذلك الخوف بأمارات قوية دالة عليها، وتحمل هذه المخادعة على ما إذا حصل في قلوبهم نوع نفاق وتزوير، إلا أنه لم تظهر أمارات تدل على كونهم قاصدين للشر وإثارة الفتنة، بل كان الظاهر من أحوالهم الثبات على المسألة وترك المنازعة، ثم إنه تعالى لما ذكر ذلك. قال :﴿فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّه ﴾ أي فالله يكفيك، وهو حسبك وسواء قولك هذا يكفيني، وهذا حسبي. هو الذي أيدك بنصره. قال المفسرون : يرد قواك وأعانك بنصره يوم بدر، وأقول هذا التقييد خطأ لأن أمر النبي عليه السلام من أول حياته إلى آخر وقت وفاته، ساعة فساعة. كان أمراً إلهياً وتدبيراً علوياً، وما كان لكسب الخلق فيه مدخل، ثم قال :﴿وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ قال ابن عباس : يعني الأنصار.
فإن قيل : لما قال :﴿هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِه ﴾ فأي حاجة مع نصره إلى المؤمنين، حتى قال :﴿وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾.
قلنا : التأييد ليس إلا من الله لكنه على قسمين : أحدهما : ما يحصل من غير واسطة أسباب معلومة معتادة. والثاني : ما يحصل بواسطة أسباب معلومة معتادة. فالأول : هو المراد من قوله أيدك بنصره، والثاني : هو المراد من قوله :﴿وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ ثم إنه تعالى بين أنه كيف أيده بالمؤمنين. فقال :﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِم لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الارْضِ جَمِيعًا مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾ وفيه مسائل :
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٥٠٣
المسألة الأولى : أن النبي صلى الله عليه وسلّم بعث إلى قوم أنفتهم شديدة وحميتهم عظيمة حتى لو لطم رجل من قبيلة لطمة قاتل عنه قبيلته حتى يدركوا ثأره، ثم إنهم انقلبوا عن تلك الحالة حتى قاتل الرجل أخاه وأباه وابنه، واتفقوا على الطاعة وصاروا أنصاراً، وعادوا أعواناً. وقيل هم الأوس والخزرج، فإن الخصومة كانت بينهم شديدة والمحاربة دائمة، ثم زالت الضغائن، وحصلت الألفة والمحبة، فإزالة تلك العداوة الشديدة وتبديلها بالمحبة القوية والمخالصة التامة مما لا يقدر عليها إلا الله تعالى، وصارت تلك معجزة ظاهرة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم.
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن أحوال القلوب من العقائد والإرادات والكرامات كلها من خلق الله تعالى، وذلك لأن تلك الألفة والمودة والمحبة الشديدة إنما حصلت بسبب الإيمان ومتابعة الرسول عليه الصلاة والسلام. فلو كان الإيمان فعلاً للعبد لا فعلاً لله تعالى، لكانت المحبة المرتبة عليه فعلاً للعبد لا فعلاً لله تعالى/ وذلك على خلاف صريح الآية. قال القاضي : لولا ألطاف الله تعالى ساعة فساعة، لما حصلت هذه الأحوال، فأضيفت تلك المخالصة إلى الله تعالى على هذا التأويل، ونظيره أنه يضاف علم الولد وأدبه إلى أبيه، لأجل أنه لم يحصل ذلك إلا بمعونة الأب وتربيته، فكذا ههنا.
والجواب : كل ما ذكرتموه عدول عن الظاهر وحمل للكلام على المجاز، وأيضاً كل هذه الألطاف كانت حاصلة في حق الكفار، مثل حصولها في حق المؤمنين، فلو لم يحصل هناك شيء سوى الألطاف لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذه المعاني فائدة، وأيضاً فالبرهان العقلي مقو لظاهر هذه الآية، وذلك لأن القلب يصح أن يصير موصوفاً بالرغبة بدلاً عن النفرة وبالعكس، فرجحان أحد الطرفين على الآخر لا بد له من مرجح، فإن كان ذلك المرجح هو العبد عاد التقسيم، وإن كان هو الله تعالى، فهو المقصود، فعلم أن صريح هذه الآية متأكد بصريح البرهان العقلي فلا حاجة إلى ما ذكره القاضي في هذا الباب.
المسألة الثالثة : دلت هذه الآية على أن القوم كانوا قبل شروعهم في الإسلام ومتابعة الرسول / في الخصومة الدائمة والمحاربة الشديدة يقتل بعضهم بعضاً ويغير بعضهم على البعض، فلما آمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر. زالت الخصومات، وارتفعت الخشونات، وحصلت المودة التامة والمحبة الشديدة.


الصفحة التالية
Icon