قلنا : لا نسلم أن لفظ التخفيف يدل على حصول التثقيل قبله، لأن عادة العرب الرخصة بمثل هذا الكلام، كقوله تعالى عند الرخصة للحر في نكاح الأمة ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ﴾ (النساء : ٢٨) وليس هناك نسخ وإنما هو إطلاق نكاح الأمة لمن لا يستطيع نكاح الحرائر/ فكذا ههنا. وتحقيق القول أن هؤلاء العشرين كانوا في محل أن يقال إن ذلك الشرط حاصل فيهم، فكان ذلك التكليف لازماً عليهم، فلما بين الله أن ذلك الشرط غير حاصل وأنه تعالى علم أن فيهم ضعفاء لا يقدرون على ذلك فقد تخلصوا عن ذلك الخوف، فصح أن يقال خفف الله عنكم، ومما يدل على عدم النسخ أنه تعالى ذكر هذه الآية مقارنة للآية الأولى، وجعل الناسخ مقارناً للمنسوخ لا يجوز.
فإن قالوا : العبرة في الناسخ والمنسوخ بالنزول دون التلاوة فإنها قد تتقدم وقد تتأخر، ألا ترى أن في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ.
قلنا : لما كان كون الناسخ مقارناً للمنسوخ غير جائز في الوجود، وجب أن لا يكون جائزاً في الذكر، اللهم إلا لدليل قاهر وأنتم ما ذكرتم ذلك، وأما قوله في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ فنقول : إن أبا مسلم ينكر كل أنواع النسخ في القرآن فكيف يمكن إلزام هذا الكلام عليه ؟
فهذا تقرير قول أبي مسلم. وأقول : إن ثبت إجماع الأمة على الإطلاق قبل أبي مسلم على حصول هذا النسخ فلا كلام عليه، فإن لم يحصل هذا الإجماع القاطع فنقول : قول أبي مسلم صحيح حسن.
المسألة الثانية : احتج هشام على قوله إن الله تعالى لا يعلم الجزئيات إلا عند وقوعها بقوله :/ ﴿الْـاَـانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ﴾ قال : فإن معنى الآية : الآن علم الله أن فيكم ضعفاً وهذا يقتضي أن علمه بضعفهم ما حصل إلا في هذا الوقت. والمتكلمون أجابوا بأن معنى الآية : أنه تعالى قبل حدوث الشيء لا يعلمه حاصلاً واقعاً، بل يعلم منه أنه سيحدث، أما عند حدوثه ووقوعه فإن يعلمه حادثاً واقعاً، فقوله :﴿الْـاَـانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ﴾ معنا : أن الآن حصل العلم بوقوعه وحصوله، وقبل ذلك فقد كان الحاصل هو العلم بأنه سيقع أو سيحدث.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٥٠٧
المسألة الثالثة : قرأ عاصم وحمزة ﴿وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ﴾ بفتح الضاد وفي الروم مثله، والباقون فيهما بالضم، وهما لغتان صحيحتان، الضعف والضعف كالمكث والمكث. وخالف حفص عاصماً في هذا الحرف وقرأهما بالضم وقال : ما خالفت عاصماً في شيء من القرآن إلا في هذا الحرف.
المسألة الرابعة : الذي استقر حكم التكليف عليه بمقتضى هذه الآية أن كل مسلم بالغ مكلف وقف بإزاء مشركين، عبداً كان أو حراً فالهزيمة عليه محرمة ما دام معه سلاح يقاتل به، فإن لم يبق معه سلاح فله أن ينهزم، وإن قاتله ثلاثة حلت له الهزيمة والصبر أحسن. روى الواحدي في "البسيط" أنه وقف جيش موتة وهم ثلاثة آلاف وأمراؤهم على التعاقب زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة في مقابلة مائتي ألف من المشركين، مائة ألف من الروم ومائة ألف من المستعربة وهم لخم وجذام.
المسألة الخامسة : قوله :﴿بِإِذْنِ اللَّه ﴾ فيه بيان أنه لا تقع الغلبة إلا بإذن الله. والإذن ههنا هو الإرادة. وذلك يدل على قولنا في مسألة خلق الأفعال وإرادة الكائنات.
واعلم أنه تعالى ختم الآية بقوله :﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّـابِرِينَ﴾ والمراد ما ذكره في الآية الأولى من قوله :﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَـابِرُونَ يَغْلِبُوا مِا ئَتَيْنِ ﴾ (الأنفال : ٦٥) فبين في آخر هذه الآية أن الله مع الصابرين والمقصود أن العشرين لو صبروا ووقفوا فإن نصرتي معهم وتوفيقي مقارن لهم، وذلك يدل على صحة مذهب أبي مسلم وهو أن ذلك الحكم ما صار منسوخاً بل هو ثابت كما كان، فإن العشرين إن قدروا على مصابرة المائتين بقي ذلك الحكم، وإن لم يقدروا على مصابرتهم فالحكم المذكور ههنا زائل.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٥٠٧
٥١٣
واعلم أن المقصود من هذه الآية تعليم حكم آخر من أحكام الغزو والجهاد في حق النبي صلى الله عليه وسلّم وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ أبو عمر ﴿وَتَكُونُ﴾ بالتاء والباقون بالياء، أما قراءة أبي عمرو بالتاء فعلى لفظ الأسرى، لأن الأسرى وإن كان المراد به التذكير للرجال فهو مؤنث اللفظ، وأما القراءة بالياء فلأن الفعل متقدم، والأسرى مذكرون في المعنى، وقد وقع الفصل بين الفعل والفاعل وكل واحد من هذه الثلاثة إذا انفرد أوجب تذكير الفعل كقولك جاء الرجال وحضر قبيلتك وحضر القاضي امرأة. فإذا اجتمعت هذه الأشياء كان التذكير أولى. وقال صاحب "الكشاف" : قرىء للنبي صلى الله عليه وسلّم على التعريف و﴿أَسْرَى ﴾ و﴿يُثْخِنَ﴾ بالتشديد.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٥١٣


الصفحة التالية
Icon