والجواب عن الوجه الذي ذكروه أولاً : أن قوله :﴿مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَه ا أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الارْضِ ﴾ يدل على أنه كان الأسر مشروعاً، ولكن بشرط سبق الأثخان في الأرض، والمراد بالإثخان هو القتل والتخويف الشديد، ولا شك أن الصحابة قتلوا يوم بدر خلقاً عظيماً، وليس من شرط الأثخان في الأرض قتل جميع الناس. ثم إنهم بعد القتل الكثير أسروا جماعة، والآية تدل على أن بعد الإثخان يجوز الأسر فصارت هذه الآية دالة دلالة بينة على أن ذلك الأسر كان جائزاً بحكم هذه الآية، فكيف يمكن التمسك بهذه الآية في أن ذلك الأسر كان ذنباً ومعصية ؟
ويتأكد هذا الكلام بقوله تعالى :﴿حَتَّى ا إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً﴾ (محمد : ٤).
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٥١٣
فإن قالوا : فعلى ما شرحتموه دلت الآية على أن ذلك الأسر كان جائزاً والإتيان بالجائز المشروع لا يليق ترتيب لعقاب عليه، فلم ذكر الله بعده ما يدل على العقاب ؟
فنقول : الوجه فيه أن الإثخان في الأرض ليس مضبوطاً بضابط معلوم معين، بل المقصود منه إكثار القتل بحيث يوجب وقوع الرعب في قلوب الكافرين، وأن لا يجترئوا على محاربة المؤمنين، وبلوغ القتل إلى هذا الحد المعين لا شك أنه يكون مفوضاً إلى الاجتهاد، فلعله غلب على ظن الرسول عليه الصلاة والسلام أن ذلك القدر من القتل الذي تقدم كفى في حصول هذا المقصود، مع أنه ما كان الأمر كذلك فكان هذا خطأ واقعاً في الاجتهاد في صورة ليس فيها نص، وحسنات الأبرار سيئات المقربين. فحسن ترتيب العقاب على ذكر هذا الكلام لهذا السبب، مع أن ذلك لا يكون البتة ذنباً ولا معصية.
والجواب عن الوجه الذي ذكروه ثانياً أن نقول : إن ظاهر قوله تعالى :﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الاعْنَاقِ﴾ أن هذا الخطاب إنما كان مع الصحابة لإجماع المسلمين على أنه عليه الصلاة والسلام ما كان مأموراً أن يباشر قتل الكفار بنفسه، وإذا كان هذا الخطاب مختصاً بالصحابة، فهم لما تركوا القتل وأقدموا على الأسر، كان الذنب صادراً منهم لا من الرسول صلى الله عليه وسلّم. ونقل أن الصحابة لما هزموا الكفار وقتلوا منهم جمعاً عظيماً والكفار فروا ذهب الصحابة خلفهم وتباعدوا عن الرسول وأسروا أولئك الأقوام، ولم يعلم الرسول بإقدامهم على الأسر إلا بعد رجوع الصحابة إلى حضرته، وهو عليه السلام ما أسر وما أمر بالأسر، فزال هذا السؤال.
فإن قالوا : هب أن الأمر كذلك، لكنهم لما حملوا الأسارى إلى حضرته فلم لم يأمر بقتلهم امتثالاً لقوله تعالى :﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الاعْنَاقِ﴾.
قلنا : إن قوله :﴿فَاضْرِبُوا ﴾ تكليف مختص بحالة الحرب عند اشتغال الكفار بالحرب، فأما بعد انقضاء الحرب فهذا التكليف ما كان متناولاً له. والدليل القاطع عليه أنه عليه الصلاة والسلام استشار / الصحابة في أنه بماذا يعاملهم ؟
ولو كان ذلك النص متناولاً لتلك الحالة، لكان مع قيام النص القاطع تاركاً لحكمه وطالباً ذلك الحكم من مشاورة الصحابة، وذلك محال، وأيضاً فقوله :﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الاعْنَاقِ﴾ أمر، والأمر لا يفيد إلا المرة الواحدة، وثبت بالإجماع أن هذا المعنى كان واجباً حال المحاربة فوجب أن يبقى عديم الدلالة على ما وراء وقت المحاربة، وهذا الجواب شاف.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٥١٣
والجواب عما ذكروه ثالثاً، وهو قولهم : إنه عليه الصلاة والسلام حكم بأخذ الفداء، وأخذ الفداء محرم. فنقول : لا نسلم أن أخذ الفداء محرم.
وأما قوله :﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الاخِرَةَ ﴾ فنقول هذا لا يدل على قولكم، وبيانه من وجهين : الأول : أن المراد من هذه الآية حصول العتاب على الأسر لغرض أخذ الفداء، وذلك لا يدل على أن أخذ الفداء محرم مطلقاً. الثاني : أن أبا بكر رضي الله عنه قال الأولى : أن نأخذ الفداء لتقوى العسكر به على الجهاد، وذلك يدل على أنهم إنما طلبوا ذلك الفداء للتقوى به على الدين، وهذه الآية تدل على ذم من طلب الفداء لمحض عرض الدنيا ولا تعلق لأحد البابين بالثاني. وهذان الجوابان بعينهما هما الجوابان عن تمسكهم بقوله تعالى :﴿لَّوْلا كِتَـابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
والجواب عما ذكروه رابعاً : أن بكاء الرسول عليه الصلاة والسلام يحتمل أن يكون لأجل أن بعض الصحابة لما خالف أمر الله في القتل، واشتغل بالأسر استوجب العذاب، فبكى الرسول عليه الصلاة والسلام خوفاً من نزول العذاب عليهم، ويحتمل أيضاً ما ذكرناه أنه عليه الصلاة والسلام اجتهد في أن القتل الذي حصل هل بلغ مبلغ الإثخان الذي أمره الله به في قوله :﴿حَتَّى يُثْخِنَ فِي الارْضِ ﴾ ووقع الخطأ في ذلك الاجتهاد، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، فأقدم على البكاء لأجل هذا المعنى.


الصفحة التالية
Icon