فإن قالوا : إن كونه بحيث سيصير حلالاً بعد ذلك يوجب تخفيف العقاب.
قلنا : فإذا كان الأمر كذلك امتنع إنزال العقاب بسببه، وذلك يمنع من التخويف بسبب ذلك العقاب.
القول الثاني : قال محمد بن إسحاق :﴿لَّوْلا كِتَـابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ إني لا أعذب إلا بعد النهي لعذبتكم فيما صنعتم، وأنه تعالى ما نهاهم عن أخذ الفداء، وهذا أيضاً ضعيف لأنا نقول حاصل هذا القول أنه ما وجد دليل شرعي يوجب حرمة ذلك الفداء، فهل حصل دليل عقلي يقتضي حرمته أم لا ؟
فإن قلنا حصل، فيكون الله تعالى قد بين تحريمه بواسطة ذلك الدليل العقلي، ولا يمكن أن يقال إنه تعالى لم يبين تلك الحرمة، وإن قلنا : إنه ليس في العقل ولا في الشرع ما يقتضي المنع، فحينئذ امتنع أن يكون المنع حاصلاً، وإلا لكان ذلك تكليف ما لا يطاق، وإذا لم يكن المنع حاصلاً كان الإذن حاصلاً، وإذا كان الإذن حاصلاً، فكيف يمكن ترتيب العقاب على فعله ؟
القول الثالث : قال قوم قد سبق حكم الله بأنه لا يعذب أحداً ممن شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلّم، وهذا أيضاً مشكل لأنه يقتضي أن يقال : إنهم ما منعوا عن الكفر والمعاصي والزنا / والخمر وما هددوا بترتيب العقاب على هذه القبائح، وذلك يوجب سقوط التكاليف عنهم ولا يقوله عاقل. وأيضاً فلو صار كذلك، فكيف آخذهم الله تعالى في ذلك الموضع بعينه في تلك الواقعة بعينها، وكيف وجه عليهم هذا العقاب القوي ؟
والقول الرابع : لولا كتاب من الله سبق في أن من أتى ذنباً بجهالة، فإنه لا يؤاخذه به لمسهم العذاب، وهذا من جنس ما سبق.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٥١٣
واعلم أن الناس قد أكثروا فيه، والمعتمد في هذا الباب أن نقول : أما على قولنا : فنقول : يجوز أن يعفو الله عن الكبائر. فقوله :﴿لَّوْلا كِتَـابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ معناه لولا أنه تعالى حكم في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة لمسهم عذاب عظيم، وهذا هو المراد من قوله :﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ (الأنعام : ٥٤) ومن قوله :"سبقت رحمتى غضبي" وأما على قول المعتزلة فهم لا يجوزون العفو عن الكبائر، فكان معناه ﴿لَّوْلا كِتَـابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ في أن من احترز عن الكبائر صارت صغائره مغفورة وإلا لمسهم عذاب عظيم، وهذا الحكم وإن كان ثابتاً في حق جميع المسلمين، إلا أن طاعات أهل بدر كانت عظيمة وهو قبولهم الإسلام، وانقيادهم لمحمد صلى الله عليه وسلّم، وإقدامهم على مقاتلة الكفار من غير سلاح وأهبة فلا يبعد أن يقال : إن الثواب الذي استحقوه على هذه الطاعات كان أزيد من العقاب الذي استحقوه على هذا الذنب، فلا جرم صار هذا الذنب مغفوراً، ولو قدرنا صدور هذا الذنب من سائر المسلمين لما صار مغفوراً، فبسبب هذا القدر من التفاوت حصل لأهل بدر هذا الاختصاص.
ثم قال تعالى :﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَـالا طَيِّبًا ﴾ روى أنهم أمسكوا عن الغنائم ولم يمدوا أيديهم إليها/ فنزلت هذه الآية. وقيل هو إباحة الفداء.
فإن قيل : ما معنى الفاء في قوله :﴿فَكُلُوا ﴾.
قلنا التقدير : قد أبحت لكم الغنائم ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَـالا﴾ نصب على الحال من المغنوم أو صفة للمصدر، أي أكلاً حلالاً ﴿وَاتَّقُوا الله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ والمعنى : واتقوا الله فلا تقدموا على المعاصي بعد ذلك، واعلموا أن الله غفور ما أقدمتم عليه في الماضي من الزلة، رحيم ما أتيتم من الجرم والمعصية، فقوله :﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ إشارة إلى لمستقبل. وقوله :﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ إشارة إلى الحالة الماضية.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٥١٣
٥١٥


الصفحة التالية
Icon